العقل العربيّ تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء، وهذا مفهومٌ -وفقًا للجابري في تكوين العقل العربيّ- يعني أنّ الاتّجاه في الفكر العربي يبحث للأشياء عن مكانها، وموقعها في منظومة القِيَم، التي يجعلها هذا العقل مرجعًا له ومرتكزًا... ويقابل ذلك نظرةٌ موضوعيّة غربيّة أوربيّة تبحث في الأشياء عن مكوِّناتها الذاتية، وتحاول الكشف عمّا هو جوهريّ فيها...
وفرقٌ كبير بين البحث عن الشيء ووظيفته والبحث عن مكوِّنات ذلك الشيء، التي تشكَّل منها؛ فالوظيفة التي نمارسها في حياتنا لا تعكس مكوِّناتنا الذاتية؛ فكوني أبا أو أخا أو دكتورا تبقى أمورًا داخلة في الوظائف التي أشكِّلها؛ لكنّها لا تعكس ذاتي الجسدية، والشكلية.. وطالما انشغلنا عن ذواتنا، وصرنا ننظر لوظائفنا التي نشغلها، وتعريف الشيء معجميا يعني -بالدرجة الأولى- ذكرَ خصائصِه؛ لا بيانَ وظائفِه، وإن كان هذا سائغًا...
النظرة المعياريّة نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وفيما يضيفه الناظر عليه؛ أمّا النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية، تحلِّل الشيء إلى عناصره الأساسيّة؛ لتعيد بناءَه، وتبرز جوهرَه...
وفي ذلك التباين بين العقلين: العربي والغربي ينقل الجابريُّ نصًّا معبِّرًا للجاحظ: يرى فيه الجاحظ: أنّ كلام الفرس يأتي بعد طول فكرة واجتهاد... وهذا هو التفكير الموضوعي؛ بينما كلّ شيء عند العرب -وفقًا للجاحظ- فإنّه بديهية وارتجال... ومن النافل للقول: أنّ الجاحظ أورد تلك المقارنة، واعتبرها مزيّة للعرب، والعقل العربي، وهي مزيّة تستبعد التعقُّل والموضوعية، وتستند على الذاتيّة والبداهة والارتجال... وهذه هي النظرة أو النزعة المعياريّة، التي تقوم على ردود فعل آنيّة؛ مقابل النظرة الموضوعية، التي تقوم على المعاناة والمكابدة وإطالة النظر، وهي (النظرة الموضوعية) سِمَةٌ ألصقها الجاحظ بالعجم من فرس ويونان، على سبيل الذم والانتقاص والتحقير!
ويعزِّز الجابريُّ التصاقَ المعيارية بالعقل العربي بنصٍّ آخر، ونظرة أعمق، ينقلها عن الشهرستاني، ويرى فيها الشهرستاني: أنّ ميل العرب والهنود يكون إلى خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيّات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية؛ أمّا العجم (الروم والفرس) فأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيّات والكميّات، واستعمال الأمور الجسمانية... وتنسجم الفطرة والطبع مع الأمور الروحانية، كما يتناغم الاكتساب والجهد مع الأمور الجسمانية..
دراسة اللغة العربية أولوية في دراسة مكوِّنات العقل العربي؛ فكيف قنَّن العربُ لغتهَم؟
وكيف صبُّوا قواعدها؟
وما نصيب المعيارية في ذلك التقنين؟
يرى الجابري أنّ أَوَّلَ عَمْلٍ علميٍّ منظَّم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية، ووضعُ قواعدَ لها، وهو أثر بقي فاعلا ونموذجًا للأعمال العلمية الأخرى، وإذا اتّسم هذا العمل بمعياريةٍ ما فإنّ تلك المعيارية وذلك الأثر سينسحب لبقايا مفردات الأعمال التالية، ويؤطِّرها ويجعلها نموذجًا لا يجوز تجاوزه... وهذا ما حدث في تأسيس العلوم الإسلامية، وهذا لا ينفي وجود تبادل في التأثير، حدث تاليًا في ثنايا الفكر العربي والإسلامي...
اللغة العربية جُمِعَتْ من أفواه الأعراب الذين بقوا منعزلين عن المؤثرات الثقافية، وهذا حرمهم وحرمنا من أسماء الأشياء الطبعية، والصناعية، والمفاهيم النظرية والمصطلحات التي عرفها عصر التدوين!
بقي عالمنا اللغوي إطارا محرومًا من تلك الفتوحات المعرفية، وبقينا مربوطين بذلك الأعرابي وبيئته الفقيرة، وعالمه، وكثرة أسماء الإبل والخيل والكلب فيه على حساب مفردات أهمّ، وهذا ما دفع الجابري ليجعل عنوان الفصل الرابع في كتابه (تكوين العقل العربي) عنوانًا مستفِّزًا: الأعرابي صانع العالم العربي، الذي ورد فيه قوله: "لقد جمدت العربية بعدما حُنِّطتْ" والجمود أشدُّ فتكًا من الموت، وأمضى منه!
مازال فينا مَن يرى للبدو والأعراب مزيَّةَ فصاحةٍ يتحتّم علينا الاهتمام بها وتقصِّيها، وهو وهمٌ تسرّب لنا من تلك النظرة القديمة التي زامنت عصر التدوين!
كثيرًا ما أتساءل: مَن يريد رصدَ تطوُّرِ مملكتِنا ولغتِنا وحراكنِا الثقافي: هل يأتي للرياض وندواتها الثقافية؟
أم يذهب للقرى المحيطة بالرياض أو البعيدة عنها ويتجه لرعاة الإبل؛ ليأخذ منهم ثقافتهم ولغتهم ومفرداتهم ومفاهيمهم وتصوراتهم، التي تدور حول إبلهم وحياتهم، باحثًا عن لغة فصيحة موهومة، أو أصالة مفتعَلة!؟
هذا ما حدث هناك فترة تدوين اللغة العربية للمرة الأولى، وهو عمل مازال ومازالت أدواته ومناهجه وآثاره السلبيّة!
اللغة ليست مادة من المواد ندرّسها طلابنا وأبناءنا؛ بل هي وعاء فكر، أو أداة فكر؛ فقد لا نتصور فكرًا دون لغة... وكلما امتد ذلك الوعاء وتنوّع أتاح لأهله مناخات أوسع، وأفق أرحب، وعوالم مختلفة... وتبقى معارف الإنسان مربوطة بما تسعفه به لغته؛ فمن ينشأ ويعيش طفولته ويستقي لغته الأولى في بيئة لغوية ثرية متنوعة، ليس كمن يعيش في بيئة لغوية فقيرة!
جهودنا ونقودنا يجب أن تتجه لتلك المنطقة من التأريخ التي تأسَّسَتْ عليها ثقافتُنا، وبقيت تحرمنا مما عرفه عصرنا الحديث من مناهج إنسانية عامّة كاشفة باذخة، تبرز لنا مفردات الخلل، وتزوِّدنا بمفردات الحل، وتعطينا وتمنحنا مفردات تقدُّمٍ كنّا، وما زلنا نحتاجها؛ لتقودنا لحضور مشرِّف، يمنحنا مكانة لائقة في عالمنا المعاصر؛ أمّا الانكفاء على تلك المفردات البائسة والتغنِّي بها فلن يقودنا إلا إلى مزيد من التخلف والتراجع!