الهويّة في الفلسفة هي حقيقة الشيء المطلقة، والتي تشتمل على صفاته الجوهريّة التي تميّزه عن غيره، كما أنها خاصيّة مطابقة الشيء لنفسه أو مثيله، ومن هنا فالهوية هي الجوهر الحقيقي للشخص/ أو المجتمع، وهي أيضاً التعبير الصريح عن استقلاله واختلافه عن غيره، وبالتالي فإن لكل شيء هويته، وأساس كل هوية هو اشتمالها على رؤية خاصة بها، سواء تجاه ذاتها أو تجاه العالم.
ونتساءل هنا هل يمتلك شبابنا العربي اليوم هوية واضحة لمستقبلهم؟ وهل يحملون راية التميز في ظل التغير العالمي؟

وعموماً فإن شرط امتلاك الهوية وضرورته يأتيان من صحة الرأي القائل "أنه لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لابد لها أن تكون ذاتا". ثم إن شكل وطبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم يؤكد ضرورة الهوية ووضوحها، فعالم اليوم يتميز بالتنوع في الأفكار والثقافات، ويخضع في فعالياته وظواهره للتنافس الدائم لتحقيق الأهداف والغايات، وهذا بالذات ما يمنح وجودنا في العالم رصيداً معرفياً وفكرياً في جميع المجالات الإبداعية، بدءاً باللغة والفن والثقافة، وليس انتهاء بالعلم والصناعة والتكنولوجيا.

ومن الطبيعي أن يستمد الفرد شعوره بالانتماء لجماعته، ومن ثم بهويته الحقيقية، من خلال مشاركته الفعالة في بناء المجتمع، فهو يكتسب مكونات هذه الهوية من خلال هذا المجتمع من جهة، ومن خلال مشاركته الفعالة فيه من جهة أخرى؛ بالإضافة إلى أن قوة هذه الهوية لا تتحقق إلا بواسطة قوة نفعها لأبنائها، وللآخرين أيضاً.

أما من جهة ثانية، وحيث أنه لا خلاف على أن الازدهار والتقدم لمجتمعاتنا مرهونان بالتزام الشباب بالعمل الجاد واستثمار الوقت لتحقيق الأهداف التي نتطلع إليها، وعدم الاستسلام أمام العثرات أو العقبات، والإصرار على تجاوز التحديات ليكون النجاح هو الحافز والدافع لشبابنا في اثبات وجودهم وترسيخ هويتهم على خارطة المستقبل، لذلك يقع على عاتق الشباب واجب التسلح بأفضل المهارات وأهم المعارف اللازمة في ظل التغير التكنولوجي السريع والدخول في عالم اقتصاد المعرفة وارتياد الفضاء، وبذلك فقط يتمكن الشباب من تغيير واقعنا إلى الأفضل.

إلى جانب مسؤولية الشباب هذه في بلورة هويتهم وتكوينها على أفضل وجه، لا بد أيضاً أن تدرك الحكومات في منطقتنا أنها تتحمل جزءا من المسؤولية المتعلقة بتكوين الهوية المستقبلية، ليس بشكل نظري فحسب، بل وعملي أيضاً من خلال وضع الخطط الاستراتيجية والبرامج التنفيذية الضامنة لتعزيز هوية الشباب وتكريس أهمية شعورهم بالانتماء، وإذكاء روح المسؤولية في نفوسهم.

كما ينبغي دائماً أن تترافق مع هذه الخطط والبرامج رؤى واضحة ومدعومة بقيم أساسية يأتي على رأسها الانفتاح على الآخر والتسامح وقبول الاختلاف، لأن ترسيخ ذلك كله في وجدان شبابنا سيؤدي إلى تعزيز روح التعاون والترابط بينهم، كما سينعكس عملياً في سلوكهم وممارساتهم، ما سيؤدي إلى الحفاظ على هذه الهوية وتطويرها وديمومتها، مع الإبقاء على مقوماتها الفاعلة التي تضمن لها التفاعل الخلاق والمنتج مع باقي هويات المجتمعات الأخرى في العالم الذي باتت العولمة أبرز سماته.

والسؤال المهم هنا هل الهوية قابلة للتغيير أم ثابتة؟ إن لمصادر المعرفة الجديدة والانفتاح على العالم في ظل اقتصاد المعرفة دور كبير في تشكيل هوية شبابنا في المستقبل، إذ إن عامل التأثر والتأثير بهذه العناصر، بالإضافة إلى التغير المستمر في وسائل الاتصال والإعلام، سيسهمان بشكل مباشر في تشكيل هوية هؤلاء الشباب؛ لهذا ينبغي على قادة مجتمعاتنا ومفكريهم العمل بشكل سريع ومثابر لضمان الاستثمار الإيجابي لهذه الأنماط والأدوات، لأن انتشارها سيكون أسرع من قدرتنا في حال أصابنا التردد والتسويف أو إهمال التخطيط السليم.

من جهة ثانية، فقد عملت الأهمية المتزايدة لعالم الرقمنة على دفع الشباب نحو مزيد من الاهتمام بكل ما يتعلق بهذا العالم، سواء من حيث الأفكار المطروحة أو اللغة المستخدمة، ولا شك أن هذا الاهتمام سيؤثر كثيراً في تشكيل هويتهم، ما يفرض على هؤلاء الشباب مسؤولية إعادة إنتاج هويتهم بأنفسهم في هذا العالم الرقمي؛ وذلك من خلال وعيهم العميق والواعي بتراثهم، والاطلاع على تراث وثقافات الشعوب الأخرى، والاستفادة الايجابية المتمثلة في التعاطي المنفتح مع ما قدمته هذه الشعوب على كل الأصعدة في ميادين الفكر والفلسفة والسياسية والعلوم البحتة...إلخ.

بالمقابل، فإن انشغال الشباب عن تشكيل هويتهم ووضع معايير تميزها سيؤدي إلى شعورهم بالاغتراب عن أنفسهم وعن كل ما يجري من حولهم، وبالتالي سيفقد هؤلاء الشباب القدرة على تكوين شخصيات مستقلة تتمتع بحس نقدي ناضج يستطيع أن يواكب دروب العولمة وهيمنتها، فالهوية الناضجة والمنفتحة على الآخر ومنجزاته هي الهوية الواثقة من نفسها والقادرة على تقديم أجمل الإبداعات والرؤى المتعلقة بالإنسان والكون.

ولا شك أن مهمة تشكيل هوية جديدة ومنفتحة، أي مخلصة في الوقت ذاته لقيمها الحية ولما أنتجته المجتمعات الأخرى، لن تكون مجرد مسؤولية شخصية أو فردية، تخص أحداً بعينه أو مؤسسه بذاتها، بل مسؤولية عامة تقع على عاتق كافة فئات المجتمع ومؤسساته التربوية والثقافية والسياسية. وكما أسلفت، فإننا ومن أجل بناء هذه الهوية، بحاجة لبرامج تنموية ثقافية عصرية تسهم في التشكيل الصحيح لثقافة شبابنا في المستقبل، وتجعل من قيم التسامح والحوار وتقبل الآخر والاطلاع على ثقافات الآخرين مداخل ضرورية للاستفادة وتطوير الخبرات وتبادل المعارف، وضرورية أيضاً لجعل هويتنا تصلح لأن تكون أنموذجاً للآخرين في قيمها وأبعادها الإنسانية.
علينا إعطاء الشبابِ الثقة بذواتهم ليكونوا قادرين على بناء وتشكيل هويتهم الذاتية وهوية مجتمعهم؛ فتقييد الشباب وإرغامهم على البقاء بعيدين عن المسؤولية لا يمكن أن يُخرج جيلاً قادراً على التجديد والإبداع، وذا هوية متماسكة وسوية تمنعه من الوقوع في فخ مفهوم "الهوية الصافية" التي يُتوهم أنها تشكلت بمعزل عن المؤثرات والتفاعلات الحضارية للآخر المختلف عنها؛ إن الوقوع في هذا الفخ سيصيب شبابنا بالنرجسية والنزعة الشوفينية التي ستزج بهم في مستنقع كراهية الآخر المختلف والنظر له نظرة دونية، وبذلك سيُحرم هؤلاء الشباب من فضيلة التثاقف الحضاري القائمة على العطاء والأخذ والحوار المنتج الخلاّق.

لذلك أجدد دعوتي الدائمة لشبابنا بأن يصنعوا ذواتهم ويشكلوا هويتهم الخاصة برؤية منفتحة ومدركة لهذا الوجود؛ فنحن لسنا كيانات معزولة عن هذا العالم بل جزء منه، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". ولا ننس أيضاً أنه بقدر اتساع أفق هويتنا سيكون امتدادها في ساحات العالم، وهذا ما يحتم علينا أن نعيد النظر في كثير من أوهام الاستعلاء على الآخرين، ونغير ما استقر في قارة اللاوعي التي تتحكم في عقلنا الجمعي الواعي من خلال تعديل زاوية تفكيرنا في أنفسنا وفي الآخر، تماماً كما قال الفيلسوف وليام جيمس: "يمكن للإنسان أن يغير حياته، إذا ما استطاع أن يغير اتجاهاته العقلية".