كلما امعنا النظر في الواقع الاقتصادي باقليم كردستان، وجدنا ان ادارة الحكومة تسير بدون بوصلة ولا خطط ولا رؤى سياسية واقتصادية مستندة الى منظورات استراتيجية لضمان عمل كافة القطاعات الاقتصادية من التجارة والزراعة والصناعة والطاقة والمصارف والايدي العاملة بصورة سليمة وبلا عقبات وبدون ازمات وبغير مشاكل تقوم بنخر المكونات الانتاجية.
والواقع الحقيقي للاحداث والمسار الحكومي السائر بالبلد، وعلى مر السنوات من 1992 والى 2021 يثبت عدم امكانية الخروج باي تحصيل ايجابي من مسيرة ثلاثة عقود لنظام حكم تشكل من الفساد جسدا وقلبا وروحا، فكل شيء بالسياسة وكل عمل بالاقتصاد وكل فعل بالتجارة وكل خطوة حكومية اواهلية لم تخرج منها سوى رائحة النهب والهدم والفرهدة.
وبينت الوقائع من خلال المشاهد الحياتية على الصعيدين الحكومي وغير الحكومي بالاقليم، ان الفساد المسيطر على الحياة العامة ممنهج ومبرمج من قبل السلطة الحاكمة من الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني ورئيسيهما مسعود برزاني والمرحوم جلال طالباني، فبعد ان استولت السلطة على كل الموارد والثروات والممتلكات العامة لكرد العراق منذ اكثر من عقدين ونصف ولم تبقي منها شيئا للمواطنين، بدأت نفس السلطة باتباع سياسة مبرمجة لتجويع الشعب منذ سنة 2014 والى يومنا هذا، وذلك لترهيبه اقتصاديا واجتماعيا وصحيا ونفسيا، وذلك من اجل بقاء الحكم وانتزاع الارادة والحرية والكرامة من جميع المكونات المجتمعية القومية والدينية الكردستانية، وتعريض اياهم الى سياسة تجويع بشعة شبيهة بعمليات الانفال الي ارتكبها النظام البائد ضد شعبنا الكردي.
وسياسة تجويع كرد العراق ليست وليدة اليوم، حيث بدات منذ سنوات باستقطاع نسبة كبيرة (15-65%) من رواتب الموظفين باسم الادخار الاجباري، ومازالت مستمرة ويتحايل اكبر وخداع متواصل وفساد اكثر من الحكومة، ونتيجة لهذه السياسة العدائية ضد الموظفين والمواطنين، يخمن فقدان القدرة الشرائية للافراد لقوتها باكثر من (60%) في ضمان مستلزمات المعيشة، ويخمن فقدان الاسواق التجارية لقدرة التعامل الشرائي بنسبة (75%) من قدرة التسوق العامة للاستهلاك، ويبدو ان الغاية المنشودة من هذه السياسة الاجرامية هي تحويل المواطنين الى فقراء بمستويات معيشية متدينة مع حرص السلطة الدائم على بقائها ولو على حساب الشعب ولقمة عيشه.
وسياسة الادخار الاجباري كان فيها بعض الالتزام لاعادة تلك الاموال في حالة توفير الامكانيات المالية، ولكن ما يحصل منذ سنة ونصف من استقطاع للرواتب بنسب معينة فهو بدون اي التزام او تعهد من الحكومة باعادتها، واظهرت السلطة نفسها وكأنها في حالة شبيهة بالبلطجية والقرصنة المتوحشة لنهب اموال الموظفين في وضح النهار.
وضمن السياق نفسه فانه من ابشع اشكال الارهاب الاقتصادي المفروضة على الموظفين باقليم كردستان وتحت انظار برلمان كردستان والاحزاب الكردية ومجلس النواب والحكومة الاتحادية والرئاسة العراقية المخولة بحماية الحقوق الدستورية للمواطن، فرض نسبة الاستقطاع بحدود 85.5% كل شهر على رواتب الموظفين، حيث تبلغ نسبة القطع التمويلي (10.5) كل شهر، وبما ان توزيغ الراتب يتم كل شهرين مرة، فهذا يعني اساسا قطع الراتب بنسبة (50%) كل شهر، وبما انه تم فرض استقطاع اخر من قبل الحكومة الاتحادية وهو رفع سعر الدولار وتخفيض سعر الدينار بنسبة (17%)، الذي ادى الى رفع اسعار المواد الغذائية والادوية والسلع الاستهلاكية بنسبة اكثر من (25%) في الاسواق، وهذا الامر ان كان بمثابة توجيه ضربة اقتصادية واحدة الى المواطنين في العراق، فانه بالاقليم بمثابة توجيه ثلاث ضربات اقتصادية مهلكة الى المواطن الموظف، لانه بالاساس وجه له ضربة توزيع الراتب بشهرين وضربة قطع نسبة من راتبه وضربة ارتفاع الاسعار، وبذلك بلغ الاستقطاع من راتب موظف الاقليم 85.5% فلم يبقى له سوى نسبة 14.5% من الراتب لتأمين المستلزمات المعيشية والحياتية له ولعائلته لمدة ثلاثين يوما.
وللتذكير فان حكومة الاقليم قد فرضت الارهاب المالي على رواتب الموظفين من سنة 2014 والى يومنا هذا، فاستقطعت على الدوام نسبة بين (15-65%) من الرواتب في السنوات السابقة، واضافة الى هذا فرضت من سنة 2020 ارهابا اخر وهو توزيغ الراتب كل شهرين او ثلاثة مرة، فعلى مدار السنة الماضية وزعت الحكومة فقط خمسة رواتب من مجموع 12 راتبا
مع توزيع ثلاثة رواتب عائدة للاشهر الاخيرة من سنة 2019، وتتدعي بطلانا وبهتانا انها وزعت ثمانية رواتب في السنة الماضية.
ولايصال صوت الاستنكار لسياسة الارهاب الاقتصادي المتبعة من قبل حكومة الاقليم الفاسدة ورئيسها، ولغرض كشف مخاطرها تم مخاطبة مكتب حضرة الرئيس مسعود برزاني برسالة ويبدو انها وصلت الى مكتب رئيس الوزراء وتم التبليغ بذلك، ولكن الرد عليه كان دون جدوى وبلا فائدة تذكر، حيث ظلت سياسة تجويع كرد العراق قائمة ومتواصلة ومتعمدة باصرار وعناد غير مسبوقين، ولا يخفى ان الاثار المترتبة عليها بمرور الوقت باتت اكبر شدة واكثر ايلاما.
والمصيبة ان الحكومة وفي ظل الفقدان الكامل لمصداقيتها، وضياع ثقة الموظفين والمواطنين بها، بسبب لجوئها الدائم الى الكذب والتحايل والخداع على الشعب نهارا وجهارا، ومثل ذلك التحايل في تحديد مواعيد توزيع الرواتب حيث انها غير ثابتة ومتغيرة حسب اهواء ومزاج الحكومة ورئيسها، فكم مرة تعلن مواعيد عديدة متلاحقة كذبا وهراءا دون توزيع الراتب، والعمل الاكثر خبثا عند التوزيع هو الاقدام على إطالة الفترة الى ابعد فترة ممكنة فبعض المرات تصل الى ثلاثة اسابيع، هكذا هي اعمال حكومة الاقليم البعيدة عن الاسس الدستورية للمواطنة، ولا شك فان هذه التجاوزات والممارسات والسلوكيات المشينة للسلطة الحاكمة في تأمين وتوزيع رواتب الموظفين الجارية منذ سنوات خرق فاضح لكل الحدود الدستورية والقانونية والاخلاقية، ويقرأ منها تعمد وتقصد في اهانة وتحطيم كرامة كرد العراق، والا فمن غير المعقول ومن غير المنطق ان تستمر ازمة مالية كبيرة على مستوى اقليم لمدة ست سنوات ولم يكشف لها عن اي حل ولم يتخذ لها اي خطوة للمعالجة.
والطامة الكبرى ان العائلات الحاكمة لمسعود برزاني وورثة طالباني والاغنياء الفاحشين فرغم االازمات العصيبة الجارية تزداد ثراءا سنة بعد سنة، وكأن السلطة ورموزها في واد والشعب في اخر، فلم يبقى قطاع حكومي او اهلي لم تسيطر عليه مافيات الحكم، ولم يبقى مشروع او تجارة او ملكية الا وللعصابات الحاكمة نصفها دون مقابل، فكل شيء منزل لهم من السماء بقدرة فاسد وملقى لهم من الارض بقدرة فاسق، وحتى من الفضاء مرسل لهم بقدرة مارق، فلم يبقى شيئ للمواطن يتنفس من خلاله ليقتنص ويتمسك بمنفذ من منافذ الحياة، فحتى الهواء في طريقها للتعبئة من قبل سلاطين الاقليم وبيعها لكرد العراق بالقرش الاسود.
غرائب الحكم بالاقليم لا تعد ولا تحصى، فكل شيء مباح للعوائل والمافيات الحاكمة وجعبة القانون تحت اقدامهم منخورة، والحكومة مجرد عصابات ومافيات وجدت لحفظ ورعاية مصالح الكبار من الحزبين الحاكمين والتهام الصغار من اغلبية الاقليم، والحزب الحاكم مجرد بودقة لاحتضان عبادا ممسوخين وساجدين راكعين للعائلتين الحاكمتين وللبرزاني والمرحوم طالباني، والبرلمان مجرد ملعب للهو واللعب بالقوانين حسب مصالح الكبار، والنواب مجرد ادوات ودمى تتحكم بخيوطها السلاطين، والديمقراطية مجرد مزحة ونزهة تذهب البها العوائل الحاكمة للاستجمام والاستحمام لتغيير الازياء وتبديل قناع الوجوه، واعلام الحزب الحاكم مجرد مستنقع لاحتضان واطلاق الكراهية والبغضاء.
يتبع
(*) كاتب صحفي
التعليقات