إليك الإجابة على سؤال عنوان المقال بشكل مباشر وقبل الغرق في تفاصيله.. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، يقود اليوم في الأراضي السعودية المطلة على البحر الأحمر أكبر حراك جيو سياسي واستراتيجي واقتصادي شهدته المنطقة والعالم على اأقل تقدير في آخر مئة عام.

منذ أن أستيقظ "التنين الصيني" قبل عقود قريبة، لتصبح الصين ثاني اقتصاد عالمي بعد أمريكا، والصين تظهر اندفاعا كبيرا لتعزيز مكانتها كقوة عالمية. ولعل إعلان الرئيس الصيني في عام 2013، عن تدشين استراتيجيتين بمسمى "طريق وحزام الحرير"، تكون نقطة ارتكازهما في البحر الأحمر، لعل في هذا الاعلان اشارة إلى أن "التنين" بدأ ينفث ناره! وفي اختيار المسمى "طريق الحرير" رمزية سياسية صينية لا تخفى على العارفين بتاريخ الصين.. وهي اشارة إلى الزمن الذي كانت فيه الصين هي القوة العالمية العظمى في بدايات القرن الثامن عشر مع ذروة ازدهار طريق الحرير حينها.

ومعلومة سريعة عن البحر الأحمر، فهو يعد أهم الممرات البحرية في العالم، وتمر عبره سنويا ما يقارب ربع التجارة العالمية بقرابة 3 تريليون دولار.. وللصين النصيب الأكبر من هذه التجارة.

ترمي الصين من خلال استراتيجيتي "طريق وحزام الحرير" إلى ضمان أسواق كبيرة لمنتجاتها، وخلق تحالفات اقتصادية تلعب أدواراً في استقرار الصين واستمرار نموها، إضافةً إلى تأمين احتياجاتها من الموارد الطبيعية، التي تزخر بها مناطق وسط آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا. ناهيك عن تخلص الصين من القبضة الأمريكية التي تضيق عليها الخناق في "مضيق ملقا" – عبر التمركز الأمريكي هناك المتمثل في قاعدة غوام- الذي تعبر منه نحو 80% من التجارة الصينية للعالم
ولكن هناك بعد جيوسياسي واستراتيجي لمشروع الصين الضخم هذا من السذاجة السياسية أن يتم التغافل عنه، وهو أن يصاحب الاستراتيجية الاقتصادية الصينية، استراتيجية سياسية وأخرى عسكرية، وإن شابها شيء من الحذر لتجنيب الاستراتيجية الاقتصادية مخاطر الانهيار. ويكفي التدليل هنا بشاهد إنشاء الصين لقاعدة عسكرية لها في جيبوتي، والذي من المتوقع أن تعمل على إنشاء المزيد من القواعد العسكرية في السنوات المقبلة، خصوصاً في دول "الطريق البحري" التي لدى الصين استثمارات في موانئها، وربما أيضا ستسعى الصين في السنوات المقبلة إلى إنشاء نقطة ارتكاز لها - مثلا- في ميناء صلالة في عمان، أو في ميناء كراتشي في باكستان، اللذان يطلان على بحر العرب، بحيث يكون لها قاعدة بالقرب من مضيق هرمز الاستراتيجي، بعد تمكنها من ضمان قاعدة محاذية لباب المندب، في جيبوتي.
ولا بد من الإشارة بأن فور اعلان الصين لمشروع طريق وحزام الحرير، بادرت بانشاء "بنك آسيا لتنمية البنية التحتية" ومقره في بكين، لضخ المليارات -على شكل قروض- في تمويل المشاريع الممتدة على طريق الحرير، للدول المنضمة للمشروع والراغبة في تمويل مشاريعها. ولمقاربة فكرة مسمى ومضمون هذا البنك، فلك أن تعتبره تماما، كالبنك الدولي، الذي يعلم العالم بأنه بنك "أمريكي" في ادارته وأجنداته!

كان لا بد من التوسع في تفاصيل التوجه الصيني الجيو اقتصادي والسياسي والاستراتيجي نحو البحر الأحمر المتمثل في مشروع طريق وحزام الحرير.. لأصل إلى تفصيل جواب ما الخطوة التي اتخذتها السعودية إزاء هذا المشروع الصيني، وهي صاحبة أكبر حدود مطلة على البحر الأحمر بنحو 2400 كيلومتر؟ وما الذي فعله الأمير محمد بن سلمان، وينبؤك بأنك أمام قائد سياسي واستراتيجي من الطراز الرفيع؟

الأمير محمد بن سلمان علم مباشرة بعد اعلان تدشين مشروع الحزام والطريق الصيني، بأن منطقة البحر الأحمر، هي مستقبل العالم، كممر اقتصادي هو الأهم في المنطقة والعالم. ‏فقام استشرافاً للمستقبل هذا، ومسابقة له بتدشين ثلاثة مشاريع عملاقة في البحر الأحمر وهي: مدينة نيوم، ومدينة البحر الأحمر ومجلس دول البحر الأحمر وخليج عدن. أي أنه وزان الصين اقتصاديا واستراتيجيا في حلمها، وسياسيا وعسكريا (إن كان خلف الأكمة الصينية ما خلفها!) عبر تأمين منطقة البحر الأحمر عسكريا بالقواعد السعودية العسكرية المطلة عليه وبانشاء مجلس تحالف دول البحر الأحمر، وباعلان انشاء قاعدة عسكرية سعودية في جيبوتي. ورغم أن جيبوتي تشتهر قبل اعلان السعودية بانشاء قاعدة عسكرية فيها، بما يشبه "سياحة القواعد"، ففيها توجد قواعد عسكرية أمريكية وأوروبية وصينية ويابانية.. إلا أنه فور اعلان السعودية التوجه بانشاء قاعدة عسكرية فيها، استقبلت جيبوتي الاعلان بحفاوة رسمية تنبئك عن مدى الثقل السعودي الاقليمي والدولي الكبير.

علمتم لماذا لم يكن عبثا تصريح الأمير محمد بن سلمان الأشهر، عند تدشينه لمشاريعه في منطقة البحر الأحمر: "هذه منطقة للحالمين وأصحاب الرؤى فقط".. هذا القائد يعمل بمنهجية واستراتيجيات مدروسة وبلغة سياسية مفهومة للدول المتقدمة وتلك التي تريد أن تتقدم.

ومن منطلق كون الكاتب "مستشار مجاني" لذوي الشأن، فاتمنى من سمو الأمير محمد بن سلمان، أن يتبنى فكرة انشاء بنك يحمل مثل مسمى "بنك منطقة/ دول البحر الأحمر"، ومقره في السعودية، تدخل في عضويته الدول المطلة على البحر الأحمر، ويكون الذراع الاقتصادي والتمويلي لمشاريع هذه المنطقة، وللحالمين الراغبين بتمويل مشاريعهم – على شكل قروض – في هذه المنطقة. بمعنى آخر أن يكون هذا البنك نظيرا للبنك الصيني المذكور.

قبل الختام، مكنني كوني مديرا إقليميا لأحد أهم مراكز البحث المتخصصة في الشؤون الدولية والجيوسياسية، ومقره عاصمة أوروبا، بلجيكيا، من أن أحضر نقاشا مرة جمع نخبة من رجال السياسة والمتخصصين من أوروبا ودول العالم.. دار هذا النقاش حول منطقة الشرق الأوسط، ووقف عند تساؤلين حول أهم وأكبر دولة في هذه المنطقة، السعودية، كان التساؤل الأول، كيف بالمنطق يتم تصنيف السعودية، وهي قوة عظمى في مجال الطاقة، على أنها لم تزل "قوة متوسطة – Middle power"؟ .. والتساؤل الثاني، لماذا لا يقرأ العالم بوضوح شكل السياسة الخارجية السعودية عبر توجه يندرج تحت إحدى مدارس التوجهات السياسية المعروفة للدول في حجمها، كمثل تحديدا الواقعية السياسية والبراغماتية الليبرالية السياسية؟.. وليت هذه التساؤلات جاءت بعد – لا قبل- سطوع نجم قائد مستقبل المنطقة سمو الأمير محمد بن سلمان، لكان انتفى منطقيا طرح مثل هذه التساؤلات!

ختاما، ينقل عن الرحالة الأمريكي من أصل لبناني/ أمين الريحاني، في كتابه "ملوك العرب"، بأنه خلال زيارته للملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله-، إبان قيام المملكة العربية السعودية، أبدى أمام الملك اعجابه الكبير بصنيع الملك القومي الكبير هذا، فاستشهد ببيت المتوكل الليثي مخاطبا الملك:
نبني كما كانت أوائلنا
نبني ونفعل مثلما فعلوا

فاستدرك الملك ببديهة وسرعة قائلا: بل يا استاذ نفعل "فوق" ما فعلوا !

ومن شابه جده فما ظلم !

كاتب وباحث بحريني