لقد نزلت في "الإمام علي ابن أبي طالب" (عليه السلام) آيات قرآنية عديدة، وأثنت عليه أحاديث نبوية كثيرة، وتكلم الناس عنه كثيرا في حياته، ووضعوا فيه مئات المجلدات بعد استشهاده، وجاء ذكره في مئات الكتب والمقالات والمحاضرات، ودانت لولايته وإتباعه الملايين من الناس. كما تحدث وكتب عنه كبار مفكري الغرب بإعجاب وإسهاب، إذا "فالإمام علي" لا يحتاج الى تعريف لأنه معروف، كما قال "المتنبي" حين طلب منه ان يمتدح عليا، فقال:
تركت مدحي للوصي تعمدا / إذ كان نورا مستطيلا شاملا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه / وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

في الدول الغربية مفكرون وباحثون وقفوا حياتهم على شؤون الشرق القديم ودرس قضاياه، وخصوا العرب بالسهم الوافر من دراساتهم والإسلام بالسهم الأوفر. ومن هؤلاء من تعمقوا في هذه الدراسات حتى اصبح لا يجاريهم فيها من يعنيه الأمر مباشرة من دول المشرق. ولا نغالي إذا قلنا إن هؤلاء المستشرقين هم الذين فتحوا الباب واسعا على حضارات الشرق القديم والمتوسط، بعد ان ألقت عصور الانحطاط والظلام على معالمها ستارا أسود كثيف السواد. ولا نغالي كذلك إذا قلنا أنهم أسهموا الإسهام الأكبر في الكشف عن الكثير من الحقائق التاريخية في الماضي والحاضر، وذلك بفضل اساليبهم العلمية الخالصة في البحث والتدقيق، ثم بفضل ما أوتوا من صبر وجلد عظيمين حين يأخذون على عاتقهم دراسة موضوع من موضوعات التاريخ. وهنا نستثني منهم المغرضين والماكرين الذين سخروا إمكاناتهم العلمية لغايات خبيثة، وانزلوا أثارهم المنزلة الرخيصة التي تقوم بتشويه الحقائق ومسخ الواقع.

وفي هذه العجالة سوف نعرض لموقف إثنين من أفذاذ الفكر الأوروبي من "الإمام علي" عرضا موجزا، وهو لا شك صورة لموقف القسم الأعظم منهم:

الأول هو الفيلسوف الإنجليزي "توماس كارليل" الذي ما يكاد يأتي على ذكر "الإمام علي" في اسلامياته حتى تهزه الشخصية العلوية من اعماقه، ويندى قلمه من تلقاء ذاته ليتغنى ببطولات "الإمام علي" حتى ليشعر القارئ بأن صاحب هذا القلم إنما هو من شيعة الإمام ومن أنصاره. يقول "كارليل" في جملة ما يقول في كتابه "محمد المثل الأعلى": "أما علي فلا يسعنا إلا ان نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس يفيض وجدانه رحمة وبرا، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة. وكان اشجع من ليث ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان، جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قتل بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه بشدة عدله حتى أنه حسب كل انسان عادلا مثله. وقال قبل موته حينما أستشير في أمر قاتله: "إن أعش فالأمر لي وإن أمت فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وإن تعفوا فهو أقرب للتقوى".

أما الثاني فهو الباحث الفرنسي البارون "كارا ديفو" الذي قام بتقصي الأسباب والعلل في حوادث الإسلام ليستجلي حقائق كثيرة بأسلوب متماسك جذاب، ويتحدث عن بطولة "الإمام علي" في حروب المسلمين وقريش حديثا تملؤه عاطفة الإعجاب. يقول البارون "كارا ديفو" في كتابه "مفكرو الإسلام": " وحارب "علي" بطلا مغوارا الى جانب النبي محمد (ص) وقام بمآثر ومعجزات، ففي موقعة بدر كان "علي" وهو في العشرين من عمره يشطر الفارس القرشي شطرين إثنين بضربة واحدة من سيفه، وفي موقعة "أحد" تسلح بسيف النبي "ذي الفقار" فكان يشق المغافر بضربات سيفه ويخرق الدروع. وفي الهجوم على حصون اليهود في خيبر، قلقل "علي" بابا ضخما من حديد ثم رفعه فوق رأسه متخذا منه ترسا مجنا. أما النبي "محمد" (ص) فكان يحبه ويثق به ثقة عظيمة، وقد قال ذات يوم وهو يشير الى "علي": من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. ويضيف البارون "كارا ديفو": "وعلي" هو ذلك البطل الموجع المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سر العذاب الإلهي". ليس في سير العظماء بعد النبي "محمد" (ص) واحدة كسيرة "الإمام علي" تحرك المشاعر وتوقظ الأحاسيس الحية في كيان من يتعرض لها بدرس او بحث.

المصدر: كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، للأديب والكاتب الكبير "جورج جرداق".