لا أعرف من يكون، لا أعرف اسمه حتى ولكني أصادفه ماشياً على طريقي، تقريباً يومياً... منذ بضعة أيام رأيته وابنته يجلسون على حافة في فيء شجرة وحولهم بضع ربط من الخبز... ظننت أنهم يأخذون استراحة قبل المضي في السير إلى منزلهم الذي يبدو أنه في الأرجاء... ولكن هذا المشهد بات يتكرر في صباحاتي وحتى مساءاتي... نفس الرجل، نفس ملامح الذل على محياه، مع أو بدون ابنته... يبيع الخبز على رصيف طريق فرعية!
لم أر أي من هذه المشاهد قبلاً، لم يسبق لي أن أصادف كم الذل الذي أراه في عيون رجال ونساء كل ذنبهم أنهم آباء وأمهات يحاولون أن يمنعوا عن أولادهم شبح الجوع... آباء وأمهات عيشوهم امتياز بلد الأرز، فتحمسوا للأسرة ولكنهم لم يعرفوا أن سويسرا الشرق سينهشها الزعران ويرموا أبناءها عظاماً متحركة على الطرقات!

ماذا يعني أن تكون لبنانياً حالياً؟
يعني أن تتحوّل إلى مرادف للغضب، وأن يتضاعف غضبك بمجرد أن تكون مواطناً في بلد انتزعت منه كل امتيازات المواطنة.
تغضب لأن طفلاً ترتفع حرارته، لا يجدوا له دواء فيموت!
تغضب لأن الفقر والجوع لم يعودا فيلماً من نسخ الخيال تتابعه عبر الشاشات بل واقعاً تراه بأم عينك كل يوم.
تغضب لأنك ترى رجالاً يصرخ يأسهم على الشاشات "بدي دواء لإبني"... "بدي أوكسيجين لبنتي".
تغضب لأن سياسة الأمر الواقع بسطت سلطتها على شعب بأكمله، شعب أصبح مخدراً لدرجة أنه اعتاد حتى الذل...
تغضب لأن سنوية انفجار 4 آب على بعد أقل من شهر، ولم يحاكم أي من المجرمين... ليس هذا وحسب يستدعي قاضي التحقيق مسؤولين أمنيين وبدل أن يمثل هؤلاء أمام القضاء تعلّق صورهم كأبطال، نكاية على الطرقات!
تغضب لأن بلدك بات كالغريق الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبدل أن يحاول من يدّعون حمايته انقاذه، يتفرجون عليه، يتنعمون بالشمس تحت مظلته بعد أن سلبوه كل ممتلكاته.
تغضب لأن من سرقوك على مدى ثلاثين عاماً لا يزالون هم أنفسهم الحاكمين، الآمرين الناهين، وبكل وقاحة يخرجون عبر الشاشات يحاضرونك بعفة ملطخة بأقذر الأوساخ.
تغضب لأن فسادهم انكشف بالأدلة الدامغة ومستمرون في استغبائك بخطابات النفاق... ولا تنتهي المهزلة هنا، فرغم كل ذلك هناك أتباعاً حاضرون للتصفيق والدفاع، إما مستفيدين أو أغبياء.
تغضب لأنك تحت سطوة تجّار دم وتجّار سلاح وفوقهم تجّار ضمير، فالأزمة كشفت أن أصغر تاجر لديه من الطمع ما يكفي ليتاجر بك وبقوتك اليومي.
تغضب لأن الدول التي أنت غريب عنها تحفّزك على الإبداع وابداعك في بلدك بات مرهوناً بأشياء لم تكن لتخطر ببالك في القرن الواحد والعشرين، بانقطاع الكهرباء وساعات تقنين المولدات الكهربائية.
تغضب لأن انتصاراتك باتت تقاس بملىء خزان سيارتك بالوقود دون أن تنتظر لساعات في طابور ذل طويل أمام محطات البنزين.
تغضب لأن أبسط حقوقك كإنسان مهدورة على مذابح المصالح الشخصية وجموح المال والسلطة اللامتناهي.
تغضب لأن حتى غضب الشارع على الساسة سرقوه لمصلحتهم، أطفأوا لهيب انتفاضة شارع محقة بطوابير من هنا وقمصان سود من هناك، فسكن الشارع وصمتت الحناجر.
تغضب لأنك تعيش أقسى أنواع الغربة في وطنك، وطن تحوّل إلى ساحة لايديولوجيات تفرض عليك نفسها بقوة السلاح والأمر الواقع، وطن تشعر فيه بكل شيء الا بالانتماء!
تغضب لأنك ما عدت تعرف أي لعنة تجابه، لعنة الحكام أو انعكاسات أفعالهم... تحاول أن تتمسك بأي خيط نور، ولو خيط رفيع تتعلّق به، ولكنهم بظلاميتهم أوصدوا عليك كل النوافذ، حبسوك في سوادهم ولم يتركوا ولا أي بصيص أمل.