السياسة صناعة عقلية لفن الممكنات وحكمة ناضجة لأغراض التوظيف الفكري والعقائدي، وبرمجة علمية ممنهجة للقبول وتخضع بالضرورة الى البرهان، فالسياسي يجب ان يكون حكيما ونبيلا وايمانه راسخا وصاحب بصيرة وصلابة موقف، وملاءة ثقافية وقدرات نوعية على بلورة القرار وإمكانيات عالية في الحسم ويحسن التكتيك عند التطبيق، والتكتيك المقصود ليست المخادعة والدجل للمعنيين بالشأن النظرية السياسية المطروحة، بل يعني تغيير آليات التنفيذ حسب طبيعة الموقف العام بما يخدم الغايات والأهداف دونما اعتماد الوسائل الميكا فيلية سيئة الصيت، وعليه ان لا يجمع المصالح المتعارضة ما بين حرفته الشريفة كسياسي مع اية من الحرف الأخرى، الربحية منها وغير الربحية لان الجمع بين الاثنين معناه الخروج عن الحكمة والنبل ويعرض بالنتيجة المصلحة العامة الى الخطر، وبالتالي يفقد موازين الأخلاقيات المفترضة في بنائه الشخصي، السياسي قد يدخل قبة السلطة التشريعية ويتحكم معها بمصائر العباد من خلال الصلاحيات الدستورية الموكلة اليه كتشريع القوانين، والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية بغية محاربة الفساد، وحسن تطبيق القوانين وقدرة الأداء في تنفيذ البرامج المعدة للخدمة العامة، فهل الجامع للمصالح يستطيع على ذلك؟
لا اعتقد مطلقا ولنا مضارب الامثال عدة عراقية او دولية، اخفق فيها الساسة الكبار والاحزاب العريقة جلها انحدرت الى حيث الأنا والمكاسب الذاتية . فالعمل السياسي ليست مؤسسات تجارية ولا هو من الأعمال القابلة الى احتضان المنافع غير تلك التي ترتبط بالخدمة العامة للشعب، ولهذا أرى ان اغلب ساسة العراق اليوم قد أصابهم العماء واختاروا المسار الربحي بمعزل عن مصلحة الأمة نوابا كانوا ام تنفيذيين، ودخلوا الظلماء وتناسوا الحكمة والأمانة النبيلة التي أودعها الناخب في ثنايا الضمير، ودب الفساد الإداري والمالي ونخر الأحشاء وعصفوا بسلطان القانون وتكبل القضاء بعد تسيسه، وانعدمت الجدية في حماية المال العام وباتت الموازنة السنوية تشغيلية فقط، وغابت المشاريع الاستراتيجية من جراء ذلك لان جل الميزانية تذهب اجور ورواتب، اذاً بعضهم ليسوا ساسة بل تجار ومافيات؟ اما الاعلام يقف على النقيض فهو رسالة شرفية لنقل امانة البيان من مصدرها المستتر او البائن الى الرأي العام، وغالبا ما يكون مؤسسة قد تنتهج الربح لا ضير ولا عيب في هذا وذاك، لطالما تختار العوامل النقلية بشرف عالي دون تحريف او اضافة او توظيفها من مصدر القرار الظالم كأبواق مأجورة، وقد يلتقي الاعلامي مع السياسي في الصفة الموسومة للبناء الشخصي في الحكمة والنبل والصدق اضافة الى الملاءة الثقافية والشجاعة وباقي السمات الانفة، صحيح ان حرفة الاعلام دخلها الدخلاء من الجهلة والأفاقين المحسوبين على المأجورين، والمروجين لرذيلة الحكام الفاسدين فهم غرباء ينشرون الخزعبلات المزمرة بعقولهم النتنة، نراهم يطبلون في وادي بلا صدى فاقدين اي معيار يتسم بمقاييس الاخلاق الشاخصة، ومن المؤكد سرعان ما يتدحرجون في الوادي السحيق غير مأسوف عليهم، نعم الاعلامي يجب ان يكون امينا وصادقا وشريفا مع نفسه ومبتغاه، ولن تتحقق تلك الثوابت الا عند اصحاب النسب الاصيل والتربية العائلية عالية المآب، اي انهم خرجوا من رحم البيوتات العريقة والمشهود لها البنان بين الانام؟
وبكل الاحوال يبقى القانون سيدا وفيصلا على رقاب من خرجوا عن مساره المعبر عن ارادة الشعب ويحكم تصرفات الجميع مهما طال الامد ؟