"أطفال على الأرض في أروقة المدارس... أطفال مرعوبون يحتمون من الرصاص خلف السيارات... طفلة بزيها المدرسي خائفة، يقيها عسكري في الجيش اللبناني ببذته وعتاده"... لا أقوى على محي هذه المشاهد من مخيلتي، ولا يذهب صوت الرصاص من أذني... أنا الراشدة التي تشاهد من خلف الشاشة، فكيف سيقوى هؤلاء الأطفال على تخطى الرعب الذي عاشوه؟ من سيعالجهم من الصدمة التي خزنوها في لا وعيهم، كما خزّن أهلهم مثل هذا الرعب منذ ثلاثين سنة ونيف... يوم استعرت الحرب الأهلية اللبنانية!

لم أعش الحرب الأهلية، استمعت إلى قصص متقاتلين على الجبهات، وقد يكون من حسن حظي أن كل الذين التقيتهم وسمعت قصصهم كانوا نادمين لأنهم فهموا أن الحرب لعبة قذرة لا ربح فيها، الكل خاسر. كنت أعتبر ذلك امتيازاً لنا كلبنانيين لأن الذاكرة الجماعية ستنقل هذا الوعي جيلاً بعد جيل... كم كنت مخطئة... في لبنان هناك من يعشقون الدم والحرب، وفي يدهم قرار الحرب والسلم ولا يفوتون فرصة ولا يغتنموها ليستعرضوا السلاح ويذكرونا بشبح الحرب الأهلية.

"الميني حرب أهلية" في 14 تشرين الأول 2021 هي إعادة لشريط الحرب على نفس خطوط التماس القديمة "الشياح – عين الرمانة"... في 13 نيسان 1975 أشعلت بوسطة عين الرمانة فتيل الحرب، ويومها كان الوجود الفلسطيني المسلّح هو الشرارة... أما اليوم فلم يكن هناك حاجة إلى شرارة خارجية، الكل يتسلّح والكل على سلاحه، وهناك طرف يستقوي ويستعرض بسلاحه، من 7 أيار 2008 يوم وجّه سلاحه "المقدس" كما يدّعي إلى الداخل اللبناني، مروراً بالعراضات المسلّحة ابان ثورة تشرين والاعتداء على الثوار في ساحة الشهداء واحراق خيمهم أمام أعين القوى العسكرية، إلى أحداث خلدة المنصرمة وصولاً إلى يومنا هذا...

من بدأ بأحداث تشرين الدموية؟ من استفّز؟ هل هناك طابور خامس استغل الأحداث؟ لا أحد يملك أي معلومات حتى الساعة ولكن لنتحدث عن السبب المباشر لما حصل، تظاهرة لمناصري حزب الله وحركة أمل لكف يد القاضي طارق بيطار عن التحقيق بجريمة انفجار مرفأ بيروت... تحمل اسم تظاهرة ولكن بلمح البصر تحوّلت بعدها شوارع بيروت إلى ساحة حرب، بكل ما للحرب من معنى... ما هذه المصادفة!

ماذا فعّل القاضي بيطار؟ استدعى وزراء ونواب ومسؤولين للتحقيق، من بينهم مسؤولين تابعين لحزب الله... واستشاط أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله غضباً، وبدأ بهجومه على القاضي بيطار الذي لم يسلم منذ تسلّمه ملف التحقيق من حرب تجييش نصرالله والاعلام التابع له... يتهم القاضي بأنه مسيّس... مهلاً، أليس السيد نصرالله نفسه من قال إنه يثق بالقضاء اللبناني ولا يثق بالمحكمة الدولية التي اتهمت سليم عياش، التابع له باغتيال الرئيس رفيق الحريري؟ ما باله، لم يعد القضاء اللبناني محط ثقته؟ أم أن المسألة استنسابية، وكل شيء يتعلق بتورط حزب الله تهمته جاهزة... مسيّس... ما هذه المصادفات العجيبة!

في السياسة، يحدث أن يشّن أركان السلطة حروباً على بعضهم البعض، ولكن مع السيد نصرالله نشهد حرباً على الحقيقة، بكل الأساليب... الاتهام، التهديد العلني، واليوم بالسلاح في الشارع! وما يفعله يدينه أكثر مما يبرؤه.

كل مرة يستشعر فيها السيد نصرالله الخطر على هالة حزبه ومصالحه ترتفع وتيرة تهديداته، والسلم الأهلي ليس بمأمن من هذه التهديدات.

اليوم، كما في 7 أيار وثورة تشرين، يقول لنا حزب الله "أنا الحاكم بأمر هذا البلد، سيادته بيدي، وقرار الحرب والسلم فيه من صلاحياتي... ومن يعصي أوامري فليتحضر للحرب"... السلم الأهلي ثمن الحقيقة!