في الوقت الذي كانت منطقتنا - وما زالت- تعاني من ممارسات طهران وتدخلاتها ودعمها لمليشيات مسلحة كانت غالبية الدول الغربية لا ترى في إيران تهديداً لأمنها القومي، وهذا ما أفضى إلى توقيع الاتفاق النووي في العام 2015، والذي تجاهل شواغل منطقتنا المتعلقة ببرنامج إيران الصاروخي والمسيرات وتصدير الثورة ودعم الوكلاء.

الغرب ذاته شن حرباً إعلامية بلا هوادة على التحالف العربي الذي أنشئ للتعامل مع تهديد حقيقي لأمن المنطقة والوقوف في وجه انقلاب المليشيات الحوثية على الدولة اليمنية، وهي ذات المليشيات التي تهدد اليوم أمن واستقرار دول المنطقة عبر عملياتها الإرهابية.

منطقتنا حبلى بالأزمات والغرب لم يكُن يوماً يرى في هذه الأزمات سوى الجانب الذي يمس مصالحه الاقتصادية وأمنه القومي، وما عدا ذلك أمر لا يعنيه وعلى الجميع التعامل مع ظروفه ومشاكله لوحده ولكن ضمن الشروط والمعايير الغربية.

مع نشوب الحرب الروسية الأوكرانية انتقلت الأزمة إلى قلب أوروبا ليقف الغرب أمام تحدٍّ حقيقي يتمثل في الأمن الجماعي وسيادة الدول واستقلالها، لتبدأ حالة من التضامن الأوروبي والأمريكي منقطع النظير مع كييف لمنع الغزو الروسي، وهذا ما تطلب من واشنطن حث جميع حلفائها مساندة موقفها تجاه الأزمة وإدانة الموقف الروسي.

غالبية الدول العربية اتخذت موقفاً متزناً من الأزمة فرغم رفضها المبدئي للحلول العسكرية إلا أنها لم تدين الموقف الروسي، وفي ذات الوقت دعت جميع الأطراف إلى تغليب الحوار والدبلوماسية واللجوء لطاولة المفاوضات لإنهاء الأزمة، وهذا الموقف لم يُتخذ جزافاً إذ أن منطقتنا ترتبط بمصالح حيوية مع الغرب وروسيا وليس من مصلحتها الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، ناهيك عن القناعات السائدة بأن سياسة المحاور لن تزيد الطين إلا بلة.

الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة منزعجة من حياد دول المنطقة وعدم اصطفافها ضد موسكو، رغم أن الغرب مارس لسنوات طويلة سياسة أقرب إلى الحياد في منطقتنا فلا هو وقف بوجه التعنت الإيراني ومشروعه الثوري وميليشياته المنتشرة في أربعة عواصم عربية ولا هو تخلى عن مصالحه مع الدول العربية، فكان يتعامل مع الطرفين من مبدأ المصالح الاقتصادية والأمنية، وهو ذات الغرب الذي يطالب الآن باتباع سياسية "معي أو ضدي" لسبب وحيد وهو أن نار الحرب وصلت إلى حدوده.

محاولة جر الدول العربية نحو معاداة روسيا والتضحية بكل المصالح والعلاقات التي تربطها مع موسكو فيها نوع من ممارسة الازدواجية فلطالما كان الغرب يمارس الحياد والانتقائية في مواقفه بناء على مصالحه وأجنداته فلماذا يرى اليوم أن نفس الممارسة خروجاً عن المألوف وابتعاداً عن المبادئ التأسيسية التي قامت عليها الأمم المتحدة؟.

أخلاقياً لا أحد يبرر الغزو الروسي لأوكرانيا ونتضامن مع شعبها ونسانده إنسانياً ولكن أليس الغرب ذاته مَن يرفض أي إجراءات تتعدى العقوبات الاقتصادية وتوفير الأسلحة لكييف؟ باعتبار أن أي خطوات أكثر تقدماً قد تضر بالأمن والسلم الأوروبي والعالمي، وتفتح أبواب الجحيم على أوروبا، لذلك تحجم تماماً عن أي تدخل مباشر في الحرب، أليست هذه أجندة ومصالح تم أخذها بالاعتبار؟ أم أن هذه سياسة "حلال على أحرام على بلابـله الدوح حلال للطير من كل جنس؟"

باختصار فإن موقف الدول العربية موقف منسجم مع مصالحها وتشابكاتها السياسية والاقتصادية، وعليها مواصلة اتخاذ مواقفها بما ينسجم مع هذه المصالح وعدم الدخول في مواجهة لا ناقة لنا فيها أو جمل.