بلد التناقضات والمفارقات يحمل من قوانين التنافر ما لا يوجد له مثيل في سَرَديّات الحياة كمواطنيه الذين يعيشون شخصيتين مُتناقضتين كمشاعر القلب التي تختلف عن أفعال الأيادي كما في وصف الباحث العراقي علي الوردي للشخصية العراقية.
وإذا كان هناك من تراوده الشكوك في هذا التفسير فليُتابع نشرات الأخبار اليومية التي تتشابه الفضائيات العراقية في عناوينها وسردها.
أحداث تُشعِر المواطن أنه يدور حول نفسه وأنه يسكن على أرضٍ يتناقض بها كل شيء كما في أيامه التي تحمل جميع فصول السنة في يوم واحد.
يُطالعك الخبر الأول عن هجرة جماعية لِسُكان القُرى والأهوار والأرياف التي شَحّ فيها الماء وبان عليها التصحّر والجفاف وهلاك الزرع والحيوان، وإذا إستمر ذلك المواطن المسكين بمُتابعة نشرة الأخبار سيُطالعه الخبر الثاني عن غرق مُدن ومحافظات بسيول الأمطار وغزارة الغيث الذي نزل من السماء دون أن تستوعبها المجاري والبُنى التحتية لتلك المدن فتنهار أبنية مدارس على رؤوس طلبتها، شوارع تغرق ومنازل تتصدّع جُدرانها من شدّة السيول لِتصدح أصواتهم بالصُراخ بوجود الحُجّة والعُذر الذي لاتمل السُلطة السابقة واللاحقة من تكراره وهي قِدم شبكات الصرف الصحي وتهالُكها وكأنهم تولّوا الحُكم حديثاً او لم يحكموا طوال عقدين من الزمن كانت كافية لإنشاء مُدن حديثة توضع بجانب القديمة على الخارطة الجغرافية، وشبكات صرف صحي أحدث بدل القديمة التي غاب عنها الزمن وإندّثرت مبانيها.
تلك الحُجّة التي يبدأ أي مسؤول أعذاره بأن البلد يُعاني من مشاكل تهالك المنظومة الصحية وبُناها التحتية.
أكثر من (500) مليار دولار نُهِبت أو سُرقت من أموال العراقيين منذ عام 2003 حسب تقارير امريكية مُتخصصة بجرد وغسيل الأموال المنهوبة إستقرّت في جيوب سُرّاق وفاسدي العراق الجديد.
لا يستحي ذلك الإعلام المحلي وهو يوصِل رسائله الإعلامية إلى الرأي العام من هذه الأخبار وكأنها إدانة غير مُباشرة للسُلطة في تقصيرها وفسادها.
لا يدري صُنّاع الأخبار في الفضائيات العراقية أنهم يُطبّقون مقولة (من فَمِكَ أُدينُك) في إتهام واضح لأؤلئك الذين لا يُجيدون غير التبرير وإلقاء الحُجّج وتِكرار تلك الجُملة المَقيتة "وهل عندنا عصا سحرية لتغيير الوضع، لقد وَرِثنا إرثاً مُحطّماً من النظام السابق" وأكاد أجزم أن كلامهم صحيح لأنهم إنشغلوا بالنهب والسرقة وتهريب الأموال تاركين الشعب يواجه ذلك المصير القاتم الذي حلّ عليه وكأن سُخريات القدر لاتُريد أن تُفارقه.
أحد العراقيين وهو يستمع إلى نشرة الأخبار وهي تتحدث عن العطش والغرق أخذه الإنفعال ضاحكاً ومُستهزئاً بالقول "الله إحتار مع العراقيين، إن أمطرت إنزعجوا وغرقوا، وإن جفّت ماتوا عطشاً ودَعوا الله أن يُنزّل عليهم الغيث"...ما الحل؟.
هكذا يكون الحال في العراق عندما إختلط اللون الأبيض بالأسود لينتج لوناً رمادياً ضبابياً كحال العراقيين الذين ضاعتْ ألوان حياتهم وتشابكتْ في متاهات الفوضى والإرباك.
هل أرض الرافدين غرقى أو عطشى؟ لا نعلم فقد ضاع عندنا (الخيط والعصفور) كما يقول المثل البغدادي.
في العراق وزارة للموارد المائية تتبرئ منها الأحزاب وتتقاذفها فيما بينها بسبب عدم وجود إيرادات مالية تنتفع أو تستفيد منها تلك الأحزاب ولأن خُبزة هذه الوزارة بسيطة لاتوفّر ذلك الدخل لِمن يستوزرها.
لم تستطع هذه الوزارة ومنذ إحتلال العراق من بناء سدّ واحد أو مُنجز يمنع تسرب المياه الفائضة التي تُخلّفها الأمطار إلى شط العرب لتذهب مهدورة دون الإستفادة منها.
صُنّاع الأخبار في الفضائيات مهووسون بالإثارة وجذب الجمهور لِتشويقهم بما يُعرف في الإعلام بالسبق الصحفي وكل تلك الغرابة في السَرد للحدث، لكن دائماً يفوتهم أن المُشاهد العراقي إعتاد في بلده على الأغرب والأنكى ولم يعد يهتم بما يحدث حوله من مُفاجآت وأحداث.
في النهاية هي مُجرد أخبار ستُغادر المُخيّلة لِتحل محلها أخبار جديدة وحوادث مُتجددة.
بين العطش والغرق يعيش العراقيون أخبارهم، يُحيون في بلد لم يشبع منه السُرّاق واللصوص، أرض منكوبة ضاعتْ بين متاهات العطش والغرق في مُفارقة مُبكية أوجدتها سُخريات الزمن على العراق الجريح.
التعليقات