تمر الأحداث في العراق دون أن يعيرها الشارع العراقي اهتماماً خاصاً رغم أهميتها وتأثيرها على حياته ومستوى معيشته، ومن بينها زيارة رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني لألمانيا وبعدها لفرنسا، وحديثه عن الصفقات الكبرى مع سيمنس الألمانية وتوتال الفرنسية، وتوسله لزيارة واشنطن، وطلب مساعدة الأردن وتدخل العاهل الأردني شخصياً لدى الرئيس الأمريكي بايدن لتلقي دعوة لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية ومقابلة بايدن كما أشيع في الأوساط الإعلامية. وأزمة الدولار وارتفاعه المدوي الذي بات يمس على نحو مباشر حياة المواطن والقدرة الشرائية للعراقيين وتفاقم الغلاء وارتفاع أسعار السلع الضرورية خاصة الفقراء ومتوسطي الدخل. وخبر اختطاف الناشط البيئي والخبير بالموارد المائية والأهوار جاسم الأسدي الذي اختطفته عناصر مسلحة مدنية في وضح النهار على الطريق بين الحلة وبغداد وهذا ما يؤشر على هشاشة الحكومة وضعفها وعدم سيطرتها على العناصر المسلحة المنفلتة وعدم توفر الأمن المجتمعي.
ما الّذي يجري في العراق ومن يحكم هذا البلد حقاً؟ هنالك ما نراه ونلمسه مما يدور فوق سطح المشهد السياسي العراقي ظاهرياً ويعطي الانطباع عن استقرار نسبي وهدوء يسبق العاصفة في سير العملية السياسية بعد أن نجح الإطار التنسيقي الهجيني، المتماسك ظاهرياً، في أخذ السلطة وتشكيل الحكومة من خلال مناوراته التي لا تتسم بالفروسية، في عزل وتحييد التيار الصدري الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وجر حليفيه السابقين في التحالف الثلاثي، وهما الحزب الديموقراطي الكوردستاني بزعامة مسعود برزاني، وتحالف تقدم السني بزعامة محمد الحلبوس لتشكيل ما سمي بتحالف إدارة الدولة الذي بات يمتلك الأغلبية البرلمانية اللازمة لتمرير صفقة اختيار رئيس الجمهورية الكوردي والذي بدوره يقوم بتكليف مرشح الإطار التنسيقي لرئاسة الحكومة وهو محمد شياع السوداني وهذا ما تم تحقيقه بالفعل. ولكن هل نعرف ما يدور في الكواليس وتحت سطح العملية السياسية والذي انكشف جزء منه من خلال تسريبات المالكي وتسريبات الجلبي وغيرها؟
يبدو التيار الصدري منعكفاً ومنعزلاً عن الحراك السياسي لكنه في واقع الأمر يتبع سياسة الصقر المحلق الذي يراقب تحركات فريسته لينقَضّ عليها في اللحظة المناسبة. وهناك الغضب الشعبي الكامن من فساد وسرقات الطبقة السياسية الحاكمة وإهمالها للشعب وتجاهلها لأبسط متطلبات عيشه الكريم في الخدمات والتعيينات ومواجهة أعباء المعيشة الأمر الذي تسبب في تفجير ثورة شعبية في تشرين 2019 التي قمعت بالحديد والنار والاغتيالات والتصفيات الدموية في عهد عادل عبد المهدي وركوب موجتها من قبل خليفته الجاهل والساذج مصطفى الكاظمي الذي وعد ولم ينفذ أي من وعوده وحقق كغيره من رؤساء الحكومة السابقين ثروته الشخصية مع من كان يحيط به من شخصيات فاسدة كرائد جوحي وأمثاله وذلك عبر السرقة والاختلاس واستغلال النفوذ والمناصب.
محمد شياع السوداني ليس سوى مرشح تسوية وهو ليس أكثر من مدير عام في نظر سيده وراعيه السياسي قيس الخزعلي رئيس ميليشيات عصائب أهل الحق. فهو إسلامي الرؤية والمنهج وعضو حزب الدعوة تنظيم الداخل الذي يتزعمه خضير الخزاعي المنشق عن حزب الدعوة الأم الذي كان في المنفى بأجنحته الثلاثة، البريطاني بقيادة الجعفري والإيراني بقيادة علي الأديب والسوري بقيادة نوري المالكي، حيث أسس السوداني حزباً صغيراً فاز بمقعدين في الانتخابات الأخيرة وتدرج في المناصب من قائم مقام إلى وزير في عدة حكومات وأخيراً إلى منصب رئيس مجلس الوزراء بعد أن رشحه الإطار التنسيقي مرغماً لتغطية الصراعات الدائرة داخله، والتي تفجرت بعد استحواذه على السلطة بالمناورات الدنيئة وتواطؤ المحكمة الاتحادية لصالحه ضد التيار الصدري وإحداث الإنقسام داخل التحالف الكوردي بشق الاتحاد الوطني الكوردستاني بزعامة بافل طالباني الذي كان يريد الحصول على رئاسة الجمهورية وإبقاء برهم صالح في منصبه لكنه اضطر لقبول تسوية والتنازل عن برهم واختيار بديل له هو عديل مؤسس الاتحاد جلال الطالباني عبد اللطيف رشيد، وشق التحالف السني وسحب مجموعة عزم منه، وأخيراً خلق الثلث المعطل الذي عرقل عملية اختيار مرشح الحزب الديموقراطي الكوردستاني البارتي لمنصب رئاسة الجمهورية الذي كان يفترض أنه سيكلف مرشح التيار الصدري جعفر الصدر بتشكيل الحكومة. واليوم برز الصراع والتنافس مرة أخرى داخل الإطار التنسيقي في موضوع تقاسم الوزارات والدرجات الخاصة والمناصب والنفوذ وتمحور حول ثلاث أقطاب رئيسية هي، قطب دولة القانون برئاسة نوري المالكي ومحور الفتح الذي صار يتحكم به قيس الخزعلي بعد تحييد العجوز هادي العامري رئيس منظمة بدر المنشقة عن المجلس الإسلامي الأعلى الذي سبق أن أنشق عنه وسلب كل ممتلكاته عمار الحكيم إبن عبد العزيز الحكيم شقيق مؤسسه محمد باقر الحكيم ، حيث قام عمار الحكيم بتأسيس ما يعرف اليوم بتيار الحكمة الذي لم يفز بأكثر من مقعدين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كما تم عزل حيد العبادي رئيس الوزراء الأسبق المنشق من حزب الدعوة، وأخيراً قطب من يسمي نفسه محور المقاومة الموالي لإيران قلباً وقالباً وهو عبارة عن ميليشيات مسلحة خارجة عن الدولة وأقوى منها مدعومة ومدربة ومسلحة من قبل إيران مباشرة والتي حشرت نفسها داخل تنظيمات ما عُف بقوات الحشد الشعبي التي تأسست إثر فتوى السيد السيستاني المرجع الشيعي الأعلى لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش الإرهابي الذي احتل ثلث أراضي العراق وصار يهدد العاصمة بغداد والمدن الشيعية المقدسة النجف وكربلاء. فالمالكي يمتلك العدد الأكبر من النواب الشيعية في البرلمان وبالتالي الهيمنة على القرار البرلماني بينما يسيطر تنظيم عصائب أهل الحق على الحكومة وهو بدور منشق من جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر وجناح التيار الصدري المسلح الذي صار يسمى اليوم سرايا السلام. فيما نرى القوى المدنية والعلمانية واليسارية والليبرالية المستقلة شبه عاجزة عن إداء أي دوري داخل المجتمع العراقي خاصة بعد انتكاس ثورة تشرين الشبابية. انقلب جزء من الإطار التنسيقي على التزامات وتعهدات تحالف إدارة الدولة ونجح في الضغط على المحكمة الاتحادية لإصدار قرار بعدم دستورية تحويل الأموال إلى إقليم كوردستان ما أثار امتعاض نوري المالكي الذي تهد لمسعود برزاني بطمطمة قرارات المحكمة الاتحادي وفرح وغبطة قيس الخزعلي لهذا القرار الذي أثار غضب مسعود وتهديده بالإطاحة بالعملية السياسية برمتها والخروج منها.
أمريكا وإيران يشكلان الإطار الدولي والإقليمي الذي يحيط بالمشهد السياسي العراقي ويتحكم به. فالعراق كان بالنسبة لإيران ليس أكثر من إقليم أو محافظة، ومنبع للثروة والنقد الأجنبي، وسوق لتصريف البضائع المتدنية والسيئة التي تنتجها إيران خاصة في زمن هيمنة قاسم سليماني وممثله العراقي أبو مهدي المهندس فعمليات تهريب العملة قائمة على قدم وساق باتجاه إيران منذ التغيير وإلى يومنا هذا ووفق حجج وذرائع متعددة من بينها تسديد ديون إيران من مبيعات الغاز الإيراني الذي يشتريه العراق من إيران بضعف سعره العالمي ويقال إن العراق أُرغم قبل أشهر على تسديد ما يعادل الخمسة مليار دولار عراقي بالدينار العراقي وقامت إيران بدورها عبر أتباعها وشبكاتها المصرفية بشراء الدولارات من السوق العراقية الرسمية وغير الرسمية مما خلق خلالاً بمعادلة العرض والطلب على الدولار وأدى إلى ارتفاعه وتحميل تداعياته السلبية على المواطن العراقي. أما أمريكيا، فبعد تخريبها المباشر لكل مرافق العراق الحيوية بعد الاحتلال وقبله، قامت أخيراً بمناورة دنيئة لمنع تدفق الدولار للأسواق المالية العراقية بحجة منع تهريبه لإيران ولقد قامت مؤخراً بضخ كمية من الدولارات المرقمة ترقيماً خاصاً وفيها شرائح تتبع نانو تكنولوجي رصدت تهريبها إلى إيران وإلى بنوك إماراتية وخليجية ودولية أو إلى تبييضها داخل السوق العراقي من خلال شراء العقارات والأراضي والمولات التجارية بأسعار تفوق قيمتها الحقيقية، وها هي تخوض حرباً اقتصادية مع إيران عبر العراق واقتصاده وحياة شعبه الذي يدفع الثمن غالياً. أمريكا تتحكم بقيمة الدولار وإيران تسرقه والعراق محروم منه وفاقد لسيادته وتقرير مصيره وتطبيع علاقاته مع محيطه العربي من خلال التكامل الاقتصادي والربط الكهربائي بمنظومة الخليج وتوفير البديل العربي للغاز الإيراني الذي تبتز به إيران العراق.
إذا لم يجد العراق جلاً سريعاً لأزمة الدولار وأزمة الكهرباء التي تشل البلاد في جميع مرافقها الإنتاجية والماء الصالح للشرب وللاستخدام البشري وأزمة شحة المياه وتأثيرها السلبي المدمر للنشاط الزراعي وأزمة النقل الطاحنة وتردي الطرق والشوارع الداخلية والخارجية وأزمة الدواء وتردي الخدمات الصحية الخ. فإنه يسير نحو الهاوية والانفجار الكبير الذي سيطيح بكل شيء وقبل كل شيء بالطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة وغير الكفؤة التي تقود البلاد نحو التهلكة.
التعليقات