مَثَل جميل ومُعَبِّر، يَنطبق اليوم على الكثير مِن البشر، ومنهم دكتاتور روسيا بوتين، الذي وعلى مدى سنوات لم يَجَِد من يتصدى له ويوقِفه عند حده، ويلجمه ويكبح رعونته وإستهتاره، فساق فيها، كما يقول أخواننا المصريون، وأطلق العَنان لأطماعه، لأنه يعلم جيداً بأن لا أحد سيحاسبه، أو حتى يقف في وجهه، فكان منه ما كان!

كانت البداية في الشيشان، التي خدَمَه في حالتها تطرف التيارات التي كانت تُحارِب فيها، والتي كان أعضائها يتبنون آديولوجية دينية متطرفة، أعطت له أمام العالم مُبَرِّراً لمُواجهتهم بقوة، وإنتهى الأمر بشراء ذمَمِهم لأنهم أصلاً مرتزقة، بدليل أنهم يُحاربون اليوم معه ضد الأوكران، كما فعلوا في القرم، بل هُم أشَد بأسا عليهم من القوات الروسية، بأعترافهم وبشهادة الأوكران! بعد الشيشان هاجم جورجيا، وتحديداً أوسيتيا الجنوبية، لنفس الحجة التي يسوقها اليوم ضد أوكرانيا، وهي أنها تضم مواطنين من أصول روسية تضطهدهم جورجيا، جاء لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم! هنا كان يفترض بالغرب التدخل، وعدم السماح له بتحقيق أهدافه وإكمال تمثيليته التي يسعى لتكرارها اليوم في أوكرانيا، آملاً أن تنجح كما نجحت أمس في جورجيا، وهي إقتطاع أوستيا منها وإعلان إستقلالها عنها كدولة شكلية من قبل أتباعه الجورجيين، تدين له بالولاء ولا يعترف بها سِواه، لكن للأسف سكت الغرب، ورأى أن ما حدث لا يستحق الصِدام معه، وتغاضى عن الأمر. ليعود ويكررها بشكل أشد وأخطر في القرم، وكلنا نعرف ماذا حدث حينها، وكيف أن دول الغرب، وأولها ألمانيا، لفلفت الأمر وبادرت عبر مستشارتها السابقة ميركل، التي إعتمدت سياسة تهادن بوتين وترضخ لنزواته، لتنظيم وساطة جَمَعت رئيسي البلدين، وتم الإتفاق على بنود لم يلتزم بها بوتين، وبدأ بخرقها بعد فترة واحداً تلو الآخر.

لو كان الغرب قد وقف منه موقفاً موحداً وحازماً حينما غزا جورجيا أو القرم، كما هو اليوم، لما تجرأ على تكرار فعلته في أوكرانيا. لكنه أمِن عقاب الغرب فتعلم أن يُسيء الأدب كما ومتى ما يحلو له، لأنه أساساً قليل الأدب، على المرء أن ينتظر من أمثاله كل وأي شيء إن لم يضع لهم حدوداً وعقوبات تمنعهم، أو على الأقل تدفعهم للتفكير ألف مرة قبل أن يسيئوا الأدب، لأنهم يعلمون بأن هنالك ما ينتظرهم. لكن الغرب، وبسذاجته المعهودة، لم يفكر بهذه الطريقة، وتماهى مع بوتين، بل وأبرمت أوروبا معه أكبر صفقة طاقة في القرن الواحد والعشرين حتى الآن، لتزويد دولها بأكثر من 60% من حاجتها للطاقة. وكانت خطوة بمنتهى الغباء من ناحيتين، فمن ناحية كانت تبدو كمكافأة، حتى لو لم تكن كذلك، بدلاً من إستغلالها حينها للضغط عليه ومساومته للإنسحاب من أوسيتيا والقرم، مقابل تمرير الصفقة! ومن ناحية ثانية جعلت إقتصاد دولها وبُناها التحتية رهينة لأهواء حاكم توَسّعي نزق مهووس بعُقد الماضي. وها هي تدفع اليوم ثمناً باهظاً لهذا القرار الغبي، رغم أنها كانت ستدفع ثمناً أقل بكثير لو بادرت بمواجهة بوتين وإيقافه عند حَدّه مُبَكّراً.

الحرب العدوانية التي بدأها بوتين على أوكرانيا في مثل هذه الأيام من العام الماضي لا تزال تحصد ضحاياها بلا توقف، لذا فإنهاءها على طاولة المفاوضات يعد مكافأة لِمَن بدأها. بوتين مجرم حرب، ويجب النظر إليه والتعامل معه على هذا الأساس، وليس التحدث إليه والجلوس معه على طاولة مفاوضات، كي يتعلم الدرس ويكون بدوره درساً مستقبلياً لكل من تسَوّل له نفسه القيام بنفس ما قام به، ولو في الحلم، خصوصاً وأن جيشه يتراجع ويتكبد خسائر فادحة في ساحة المعركة، التي على ما يبدو، لم يعد حَسمها عسكرياً لصالح أوكرانيا بالأمر المستحيل. فمنذ بداية الصراع وحتى اليوم غَيّرَت روسيا أهدافها الحربية، من التوَسّع في كل أوكرانيا، الى التركيز على شرقها فقط، في مقابل إستعادة الجيش الأوكراني لزمام المبادرة في الكثير من الجبهات وبضمنها دونباس، على الرغم من إعلان بوتين للتعبئة الجزئية الإضافية لجنود الاحتياط، الذين يفُرّون يومياً، ليس فقط مِن ساحات القتال، بل مِن كل روسيا! لذا قد يكون وقف إطلاق النار لصالح أوكرانيا مُمكناً بحلول نهاية هذا العام، وربما قبلها، إذا سارت الأمور على المنوال الذي هي عليه اليوم، مع الحفاظ والإصرار من قبل أوكرانيا والغرب على مطلب وهدف إستعادة الأراضي الأوكرانية المحتلة كاملةً دون أن تنقص شبراً، لأن أي تنازل من قبلهم سيعتبره بوتين مكسباً ومكافأة، ونصراً يُعزز نظامه ويشجعه على تكرار هذه الأفعال.

لقد بات واضحاً لأوروبا وأمريكا، بل ولجميع دول العالم الديمقراطي المُتحَضِّر، أن السماح لبوتين بتحقيق أهدافه في أوكرانيا، سيُغريه ويجعل لعابه يَسيل لتكرار السيناريو مستقبلاً، والتوسع على حساب دول أخرى في أوروبا، وهو ما لن تجازف أوروبا وأميركا بالسماح بحدوثه، وتكرار تجربة هتلر المَريرة التي دَمّرت أوروبا، وكلفتها ملايين الضحايا، وخرجت منها بدروس ثمينة، حَوّلت بلدانها الى واحات للتآخي والسلام، يسعى أمثال بوتين لتعكير صفوها وتحويلها الى ساحات لحروب عبثية هجرتها منذ عقود، ولم تكن تنوي العودة إليها كما حدث مؤخراً، لولا أن بوتين جرّها إليها جرّاً. لذا يأمل الكثيرون أن تكون هذه المَرّة هي الأخيرة، عِبر عدم السماح بظهور زعماء على شاكلة بوتين في الدول الأوروبية مستقبلاً، والتعامل معهم سريعاً في حال وصولهم الى السلطة، وليس التهاون والتراخي معهم، كما حدث مع بوتين. هذا الأمر يمكن تحقيق جزء كبير منه عبر تنفيذ مشروع إعادة بناء فكري وإقتصادي وسياسي بعد تنحية بوتين، على شاكلة مشروع مارشال في ألمانيا، كان يفترض تنفيذه بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، بدل ترك روسيا لمافيات الحزب الشيوعي التي كانت تحكمه، مشروع يستهدف العقل السياسي الروسي الذي جُبِلَ على فكرة التوسع والتفوق على جيرانه، لترويضه وديمقرطته ومنعه من إفراز ساسة مَهووسين بأطماع توسعية لا تلتقي مع روح الديمُقراطية الليبرالية التي تعتمدها الدول الأوروبية كدستور سياسة ومجتمع، وكأسلوب حكم وحياة. فمَتى ما تحَوّلت روسيا الى دولة بِروح ديمقراطية حقيقية، يَتشَرّبها الأطفال منذ الصغر، ويُمارسها الكبار في تعاملاتهم، ويطبقها الساسة في حُكمِهم، وليس فقط بآليات جامدة كصناديق الإقتراع، التي يتم إستغلالها منذ عقدين من قبل بوتين كمكائن تدوير النفايات، لتبادل مَنصب الرئيس ورئيس الوزراء كَكُرة البينغ بونغ، بينه وبين تابعه المعتوه ميدفديف، حينها فقط يمكن الإطمئنان الى أن إحتمالية نشوب حرب في أوروبا باتت بعيدة جداً لعقود قادمة.


[email protected]