بخطوات حاسمة تسير مصر وتركيا نحو عهد جديد من العلاقات، بعد قطيعة وجفاء دام لسنوات طويلة، شهدت خلالها تأزما سياسيا ودبلوماسيا وسرعان ما تحوّل التباعد إلى خصومة ومواجهات ساخنة في أكثر من ملفّ ثنائي وإقليمي حتى ربيع 2021، حين أعلن عن عودة المحادثات الاستكشافية بين القاهرة وأنقرة باجتماع وزيرَي خارجية البلدَين في محاولة لتحسين علاقاتهما، تلتْها العديد من الاجتماعات التي لم تُوصل إلى أيّ اتفاق رسمي يجمع البلدين، حتى جاءت الأيام القليلة الماضية والتي حملت معها الخطوة الثانية من مسار المصالحة بزيارة وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو للقاهرة.

ولفهم سيرورة المصالحة بين مصر وتركيا لا بد من التطرق إلى سياسة المصالحات التركية، والتي كانت بمثابة الخروج من القوقعة التي دخلت فيها تركيا منذ سنوات بسبب سياستها الإقليمية، والتي تسببت بشكل مباشر في عزلتها فقررت أن تعيد حساباتها، بما أنها لم تكسب على المستوى الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط أي شيء بسبب العداء والخصومة الواضحة التي كنتها لمصر والسعودية والإمارات لتتجه بعدها إلى سياسة صفر مشاكل مع دول المنطقة.

وبما أن مصر من ضمن خطط سياسة "الصفر مشاكل" بات من الواضح ان هرولة أردوغان لمصالحة السيسي أصبحت مهمة أكثر من أي وقت مضى، لكن أهم ما يعرق هذا التقارب هو خلاف الطرفين حولة المسألة الليبية، حيث ترى مصر نفسها الطرف الأكثر قدرةً على وضع حلول للاستقرار، فأمنها من أمن ليبيا، ولها مصالح مشتركة في محاربة الإرهاب ومصالح اقتصادية؛ في حين أن تركيا تنظر إلى ليبيا على أنها سوق استثماري مربح فلدى أنقرة مصالح واتفاقيات مهمة مع طرابلس بخصوص المنطقة البحرية، وكانت مصر قد أعلنت موقفاً متشدداً من الاتفاقية الموقعة بين تركيا وحكومة الوحدة الوطنية الليبية، التي تقضي بالسماح لأنقرة بحقوق التنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية - متفقة بذلك مع اليونان، العدو الرئيس لتركيا في شرق المتوسط.

كما أن الرؤية التركية لحل الأزمة السياسية الراهنة تتمثل بإقامة حوار بنّاء بين جميع الفرقاء، أما مصر، فهي تميل إلى اختيارات مجلس النواب، لكن استمرار الانقسام يهدد مصالحها، في حين أنها ليست الطرف الوحيد المعني بالتعاطي مع الملف الليبي، وعليه فإن الأزمة الليبية من المرجح أن تحظى بمساحة مباحثات كبيرة قد تطول أكثر مما هو متوقع، وهذا ما يعني أن اللقاء المنتظر بين أردوغان والسيسي سيتأجل إلى ما بعد الانتخابات التركية.

وبالرغم من كون الملف الليبي من أهم الملفات العالقة بين تركيا ومصر إلى أن هناك ملفات أخرى كغاز شرق المتوسط وتوازناته والتي تأجل عقد هذه المصالحة رغم إجراء لقاءات متبادلة بين الطرفين إلا أنها لا تزال بعيدة عن سياق التحالف الثنائي الإقليمي الذي من شأنه أن يغيّر خارطة التوازنات القائمة في المنطقة، وعن عودة سريعة لعلاقات طبيعية، بما أن مصالحة الطرفين تتطلب رضا الطرفين فلا بد من استشعار الرغبة الكاملة للقاهرة في المضي قدما في مسار المصالحة، لكن وبالرغم من تصريحات وزير الخارجية المصري شكري عن أهمية إعادة العلاقات بين مصر وتركيا إلى مستواها السابق والسير بها بما يضمن توافق مصالح البلدين المشتركة، غير أن الاحتمال الأقرب هو أنّ شمس المصالحة لن تذيب صقيع العلاقات بين ليلة وضحاها، كما أن القاهرة تتريّث في اتّخاذ خطواتها تجاه هذا التطبيع في انتظار المزيد من التحوّلات التي من المرجح أن تحدث خلال الفترة القادمة تعني القاهرة بالدرجة الأولى في سوريا وليبيا والعراق وإفريقيا. وهذه كلّها مسائل عالقة تحول دون الانتقال إلى مرحلة جديدة من التقارب بين البلدين.

رغم كل الخلافات التي تأجل تحقيق مصالحة مصرية تركية حقيقية كاملة المعالم، غير أن المصالح الاقتصادية قد تكون دافعا قويا نحو الخروج من إطار الخلافات وتغليب المصالح المشتركة، كالوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود بين الطرفين وتوجه مصر إلى الجانب التركي على حساب اليونان وقبرص، والذي من شأنه أن يأمن تدفق الاستثمارات لإنقاذ الوضع الاقتصادي. ناهيك من أن توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية سيعيد إلى مصر مناطق كبيرة كانت قد خسرتها لصالح اليونان وقبرص ويوسع من مناطق مصر الاقتصادية في البحر المتوسط.

وفي خضم كل هذا، تظل المصالحة التركية المصرية عالقة في شباك العديد من الخلافات، التي باتت تتحكّم بمسار العلاقات بين البلدين، ولا يمكن إغفالها أو تجاوزها بسهولة، لكن هذا لا يعني أنها ستبقى كذلك فالتطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية لهذه الدول أصبحت تفرض عليها نهجا جديدا من أجل التخلي عن خلافاتها وتغليب المصالح المشتركة، وهو ما تدركه كل من مصر وتركيا جيدا، على ان تكشف الفترة القادمة ما تحمله تجاه هذه المصالحة.