سنين والأسد منبوذ دولياً، ولم تكن رحلات طائرته تنتهي سوى في موسكو وطهران اللتان ضمنتا بقائه في السلطة. لكن في الأشهر الأخيرة حَطّت طائرته في مسقط وأبو ظبي، وبينما تم استقباله حينها بشكل متواضع، إستُقبِل مؤخراً في جدة بشكل رسمي. من الواضح أن دكتاتور دمشق كان مُستمتعاً بعودته للجامعة العربية، بعد 12عاماً من تعليق عضوية بلاده فيها. لذا بعد وصوله، دخل القاعة الكبرى لإجتماع القمة العربية مُبتسماً ليوحي أنه إنتصَر في النهاية. بعدها بوقت قصير، خَطَف ضيف آخر خاص في القمة هذا العَرض، هو الرئيس الأوكراني زيلنسكي، الذي كان حضوره مُفاجِئاً، وتم إستقباله أيضاً بشكل رسمي. جلس كلاهما في القاعة. الأسد، تابع بوتين، والذي يدين له بالبقاء على كرسيه. وزيلنسكي الذي جاء ليُناشد الدول العربية من أجل دعم أقوى لأوكرانيا، والذي لم يكن في وضع مريح، كما في زياراته إلى عواصم الأوروبا، بدليل إمتناع الوفد السوري في القمة عن وضع سماعة الترجمة خلال إلقائه كلِمته. لكنه حافظ على رباطة جأشه المعروفة التي هبط بها من الطائرة مرفوع الرأس، رغم قصر قامته، على عكس الأسد، الذي هبط من الطائرة مطأطأ الرأس، رغم طول قامته! وإستهل كلمته قائلاً "أنا متأكد أن البعض في هذه الغرفة ينظرون في إتجاه مختلف بشأن الغزو الروسي، لذا أنا هنا حتى يمكن للجميع إلقاء نظرة صادقة الى هذا الصراع، بعيداً عن التأثيرات الروسية. نحن لم نختار الحرب، بل نطرد المحتلين من مدننا".

عام 2011 قرر أعضاء جامعة الدول العربية معاقبة الأسد، بسبب قمعه لإنتفاضة شعبه التي كانت في البدء سلمية، وفشله في الالتزام بمبادرة سلام عربية، ما أدى لإندلاع حرب أهلية تسببت بقتل وتهجير الملايين من أبناء شعبه. لذا عودة الأسد إلى الجامعة العربية، لم تلق في البدء قبولاً من جميع الدول العربية. فدول مثل قطر والأردن والكويت أرادت أن تخضع عودته لشروط، مثل تفعيل العملية الديمقراطية، وتقليص علاقاته مع إيران، أهم حليف له في المنطقة. لكنهم في النهاية رضخوا على مضض للإجماع العربي برعاية الإمارات التي أعادت فتح سفارتها في دمشق منذ 2018، وضغطت لأجل التطبيع، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بدعوتها للأسد لحضور قمة المناخ هذا العام. حتى أردوغان، الذي لم يترك أي جهد للإطاحة بالأسد، أعلن عن رغبته بالتطبيع معه في حال فوزه بالإنتخابات الرئاسية، والسبب ثلاثة ملايين لاجيء سوري في تركيا، ومثلهم في الدول المجاورة، باتوا يشكلون عبئاً على إقتصادها، وفق وجهة نظر بعض مواطنيها. لذا باتت هذه الدول، مثل الأردن ولبنان وتركيا، مهتمة بعودة اللاجئين السوريين الى سوريا. إضافة للمشاكل المتعلقة بالإتجار بمُخَدِّر الكبتاغون، الذي بات يُمثل شريان نظام الأسد الإقتصادي وأبرز صادراته، إذ تفوق قيمته صادرات البلاد القانونية وفق إحصائات وكالة فرانس برس، وهذا الأمر مُستحيل دون التطبيع مع الأسد. أما موقف السعودية تحديداً، فيمكن تلخيصه بعبارة "الواقعية السياسية". فعلى الرغم من ضعف سوريا وتدميرها، إلا أنها تظل من أهم دول الشرق الأوسط بسبب موقعها الستراتيجي. لذا فالمملكة، التي سبَق وطلبت من الولايات المتحدة تسليح المعارضة السورية مطلع 2013، تفكر الآن بشكل واقعي، وهي نفسها التي أرسلت إمدادات إغاثة إلى مناطق الزلزال السورية مطلع 2023. تريد الرياض تعزيز رؤية 2030، لذا توجه سياستها الخارجية لتحقيق هذا الهدف، وبضمنها كيفية التعاطي مع الملف السوري. رغم ذلك هي حذرة، فحتى الآن إستئنَفت علاقاتها الدبلوماسية مع الأسد على مستوى قنصلي فقط. وليس سراً أن التطبيع مع الأسد خلفه ضغوط، مِن سَفّاح الكرملين الذي بات شريكاً إقتصادياً للمملكة، ومِن طهران التي وقّعت معها إتفاق سلام برعاية الصين، رغم الرفض الغربي للقرار، كونه مَنح إنتصاراً دبلوماسياً غير مُبَرّر لمُجرم حرب ولشركائه في الجريمة إيران وروسيا.

فالأسد لم يقدم تنازلات، ولا توجد مؤشرات على أنه سيُغيّر سلوكه البلطجي، ولم يُظهِر ندماً على جرائمه، ولا زال يقمَع معارضيه الذين تعج بهم سجونه، ولا تزال شبيحته وملشيات إيران اللبنانية والعراقية تتاجر له بالمخدرات. والفكرة القائلة بأن ملايين اللاجئين السوريين سيعودون إلى الوطن، إذا ضخت دول الخليج أموالاً لإعادة بناء المدن التي دمرها جيشه وجيش بوتين، خيالية. فالغالبية تخشى على حياتها، وفي كل الأحوال سيقوم نظام الأسد بإستغلال الأموال لتعزيز سيطرته على البلاد، كما فعل مع مساعدات الزلزال. فقد أرسلت عشرات الدول مساعداتها إلى سوريا وفتَحت معها قنوات إتصال، وإستَقبَل الأسد مُنَسِّق الإغاثة التابع للأمم المتحدة. هكذا تحركات مع الأسد كانت حتى الأمس القريب غير واردة، نظراً لمسؤوليته عن مقتل نصف مليون إنسان، لكن يبدو أن دول عديدة كانت تنتظر فرصة للإنفتاح عليه، والزلزال وفرها لها. لذا ظهر الأسد بحالة مزاجية جيدة خلال زيارته لمناطق الزلزال بعد أيام من حدوثه. يُعَوّل البعض على إحتمالية أن الدول العربية توصلت الى إتفاق مع الأسد قبل التطبيع معه، تعَهَّد بموجبه القيام ببعض الإصلاحات فيما يخص سياسته الداخلية والخارجية، كي لا يكون هذا التطبيع إشارة الى دكتاتوريين آخرين بعدم وجود عواقب على قمعهم وتهجيرهم لمواطنيهم، وإنتهاكهم للأعراف الدولية والقانون الدولي. حتى اللحظة لا دليل على وجود مثل هكذا إتفاق، كما أن تصرفات الأسد لا توحي بذلك. لذا أبرز الخاسرين أيضاً من التقارب مع الأسد هي الأمم المتحدة، التي أرادت تحقيق عملية إصلاح سياسية، وتحسين أوضاع حقوق الإنسان في سوريا بمساعدة مشروطة لإعادة الإعمار. وحصول الأسد الآن على كل شيء مجاناً دون شروط، معناه إن هذه العملية قد تم وأدها، ولا أمل بعيش كريم للسوريين الذين ما زال مصيرهم يعتمد على سياساته، وستبقى بلاده مصدر قلق ومجزأة سياسياً. لذا يجب أن تظل أمريكا وأوروبا مُتحدتين في فرض العقوبات على النظام، مع إستخدام نفوذهم مع الشركاء العرب لفَرمَلة إنجرافهم نحو التطبيع الكامل معه.

هنالك بكل الأحوال تحول في السياسة الخارجية لدول الخليج، سببه على ما يبدو هو أنها سَئِمَت من أن ينظر إليها كمحطة وقود! إذ يتمتع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اليوم بسلطة كبيرة في منظمة تتحكم بجزء كبير من ثروات العالم، لذا يتّجه للعب دور يتناسب مع هذه السلطة، ومع موقع بلاده الستراتيجي. يندرج تحت هذا التوجه قرار منظمة أوبك + التي تقودها السعودية في أكتوبر الماضي بخفض الإنتاج، الذي رآه البعض مجاملة منه لروسيا. وبمساعدة الصين قام بالتطبيع مع ملالي إيران. وأعاد النظام السوري المنبوذ دولياً إلى جامعة الدول العربية. وقام بدعوة عدو بوتين زيلينسكي لحضور القمة، ليوصل له رسالة مفادها أن صديقه الأسد ليس مرحب به مرة أخرى بأذرع مفتوحة! لذا تسعى دول الخليج للتركيز على المناورات الدبلوماسية أكثر مِن الحلول العسكرية، خصوصاً بعد تقاربها مع إسرائيل، والإعتماد على سياسة شرق أوسطية داخلية تحسّباً للإنسحاب الأمريكي والأوروبي من المنطقة، وبقائها وحيدة وسط غيلان كتركيا وإسرائيل وإيران. وفي ما يخص نظام الأسد، ونظراً لأن جميع العقوبات التي فُرِضَت عليه، الى جانب محاولات تمكين المعارضة، لم تُثمر نتائج ملموسة على أرض الواقع بعد 12 عاماً على إندلاع الحرب، باتت هنالك قناعة بأن المعارضة لم تعد بديلاً للنظام، خصوصاً بعد تجربة المعارضة العراقية التي فشلت في إدارة العراق وحولته الى ساحة خلفية لإيران، بعد أن أطاحت لها الولايات المتحدة صدام وسلمتها البلاد على طبق من ذهب. لذا في ملف الصراع مع إيران مثلاً باتت دول الخليج ترى أن التقارب مع الأسد يمكن أن يُسهم بإضعاف علاقته الوثيقة مع طهران. وهو أمر سَعت إليه قبل الأزمة السورية، حين تولى السلطة خلفاً لأبيه لكنها لم تنجح، لذا نجاحها هذه المَرّة موضع شك، خصوصاً أن علاقته بالملالي باتت أوثق، بعد دعمهم له للبقاء في السلطة، بمقابل المواقف العربية التي كانت تسعى لإسقاطه! وهو أمر لن ينساه، ولن تمحيه من ذاكرته حفاوة الإستقبال بالأحضان والسجاد الأحمر. إيران بدورها تعي هذا الأمر، لذا إحتفلت بعودة سوريا للجامعة العربية، وملاليها يقدمون أنفسهم كمنتصرين. فقد أشاد رئيس تحرير صحيفة كيهان، المُقرّب من خامنئي، بعودة سوريا للجامعة العربية وحضور القمة، ووصفها بإنتصار تأريخي آخر للأسد، وقال مازحاً "الجامعة العربية عادت إلى الأسد، وليس العكس".

أما مشاركة زيلنسكي في القمة، فقد يكون إهتمام المملكة العربية السعودية بها أكبر من إهتمام زيلينسكي نفسه، إذ تحاول المملكة منذ فترة تقديم نفسها كوسيط في حرب أوكرانيا. فقد كان وزير الخارجية السعودي في كييف وموسكو في الربيع، وفي العام الماضي شاركت السعودية بالتفاوض على تبادل أسرى بين كييف وموسكو. المملكة تريد البقاء خارج الصراع الخفي حالياً، والذي قد يظهر قريباً للعلن، بين المعسكر الغربي من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى. وصول الرئيس الأوكراني إلى المملكة لم يختلف، بروتوكولياً على الأقل، عن زياراته الى أوروبا. لكن على عكس برلين ولندن، في القمة العربية لا يمكنه إنتظار تعبيرات التضامن، أو التعويل على وعود بحُزَم مساعدات وشحنات أسلحة بالمليارات. لكنه يعلم إن زيارته إلى جدة، ودعوته كضيف شرف لإجتماع القمة، هي بكل الأحوال إنقلاب دبلوماسي للبلد المُضيف، ينبغي أن يستغله لصالح بلاده. لذا طالب في كلمته التي ألقاها أمام قادة القِمة بدعم أكثر لبلاده.

لقد وضع الغزو الروسي لأوكرانيا دول الخليج في موقف حرج. فمنذ بدايته، وضعت معظم الدول العربية، وبضمنها دول الخليج، نفسها على الهامش عَمداً. بالنسبة لهم، الحرب بعيدة وهم ليسوا مهتمين بالدفاع عن القيم الليبرالية الغربية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. إضافة إلى ذلك، هم لا يريدون تعريض علاقتهم الطيبة، الحديثة العهد، مع روسيا والصين للخطر. على سبيل المثال، أدانت دول الخليج العدوان، لكنها لم تفرض عقوبات على موسكو. لذا هُم في مأزق إختيار بين المباديء وبين المصالح، بين شراكتهم التأريخية مع أمريكا وأوروبا وبين علاقاتهم الإقتصادية المتنامية مع روسيا. نتيجة لذلك هناك شعور في الغرب، بأنه بينما تستعِر نيران الحرب في أوروبا، تقف دول الخليج مُتفَرّجة على التل. على العكس مما حدث حين كادت نيران الحرب وآبار النفط التي أحرقها صدام بعد غزو الكويت أن تلتهم دول الخليج قبل ثلاثة عقود، حين سارعت أمريكا وأوروبا لتشكيل تحالف دولي لإطفائها ونُصرة حلفائها وتحريرهم من الغزو، لذا ربما جائت دعوة زيلنسكي لإيصال رسالة الى الغرب أن الدول العربية تُفَرِّق بين الضحية والجلاد، لكن لا يمكنها الذهاب بعيداً، وأن الدعم الرمزي لأوكرانيا ممثلاً بدعوة رئيسها وإستقباله رسمياً لحضور القمة وإلقاء كلمة فيها، هو أقصى ما بإمكانه القيام به دون الإضرار بمصالحها مع روسيا، التي قدمت سفارتها في مصر إستنكاراً الى الجامعة العربية. أما الإستقبال الرسمي لبشار، الدكتاتور الذي قصف وهَجّر مواطنيه، وتخصيص كرسي له والسماح له بإلقاء كلمة، رغم كل الدوافع التي سيقت لتبريره، يُمثل نكوصاً للدبلوماسية العربية، سيرسل رسالة تقشعر لها الأبدان لضحايا الأسد مفادها أنه قد أفلَت من العقاب!

قد لا نتفق مع هذه القمة، كما أنها قد تكون كالعادة، قِمة بالإسم فقط، لكنها بالفعل ستنتهي على ما فيش، كأغلب سابقاتها إلا ما ندر. إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنها كان مختلفة وإستثنائية في جرأة عقدها بحضور شخصيتين متناقضتين مثيرتين للجدل، بغض النظر عن إتفاقنا أو إختلافنا معهما.


[email protected]