تبرز الكنيسة كآلية مهمة وفاعلة ضمن أبرز آليات السياسة الخارجية المصرية، كونها تأتي فى مقدمة القوى الناعمة والمؤثرة فى العلاقات ما بين الدول، وبالرغم من أنها لا تمارس أية مهام سياسية، حسبما صرح قداسة البابا تواضروس الثاني_بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية_ بأن الكنيسة ليست حزبا سياسا، إلا أن معظم تحركاتها وأهدافها تأتي فى صميم العمل الوطني على المستويين الداخلي والخارجي.

وثمة عدة دلالات يمكن استنتاجها من تحركات الكنيسة الخارجية:

استقرار الداخل المصري
على عكس معظم دول المنطقة والتي تعاني اضطرابات سياسية وغياب تام لمعايير الأمان، تشهد مصر حالة كاملة من الاستقرار السياسي، وهو ما تسعى الكنيسة وبصفة مستمرة للتأكيد عليه، فطالما أسهم قداسة البابا تواضروس فى إحداث دبلوماسية مصرية من نوع خاص، عبر انفتاح رصين وفى لقاءات رسمية على مستويات رفيعة، أيضا خلال زيارات البابا وتحركاته إلى العديد من الدول، حيث تعددت اللقاءات، ومنها انتهج قداسته إيضاح الصورة المصرية كاملة، سيما عقب تعقيدات شابت المشهد المصري، على إثر الحراكات الشعبية والوطنية والتي اندلعت وتجددت منذ 30 يونيه، ومن ثم اكتملت أُطر العلاقات وتبلورت مبادئها بين مصر ودول عدة.

غير أن دبلوماسية الكنيسة وفاعليتها برزت على نحو جلي في مقابلات البابا ومختلف ملوك وزعماء العالم، حيث التقى قداسته معظم رؤساء أوروبا، روسيا واليابان، أيضا بعض ملوك وزعماء المنطقة، فمنذ أن اعتلى البابا الكرسى المرقسي، واستقبل العديدين فى انعكاس لتوافق مصري حول دبلوماسية متزنة وإن تنوعت أدواتها، لكن تمكنت الكنيسة من المشاركة فى رسم هذه الدبلوماسية وإعادة صياغتها.

التعاون بين المؤسسات والأجهزة المصرية
وربما لم تتمكن الكنيسة من لعب هذا الدور الوطني والدبلوماسي، إلا عقب تقارب واضح وتعاون مع كافة المؤسسات المصرية، فالبداية تبلورت من العلاقات الوطيدة والتى تربط الدولة والكنيسة، وتتضح جيدا فى اللقاءات والتي تجمع فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي وقداسة البابا تواضروس، فالطرفان يتبنيان المواقف المشتركة ويسعيان من أجل رفعة مصر، أيضا تحرص الكنيسة على الخروج بخدمتها والتحرك إلى المجتمع بكافة أطيافه وفصائله، ومن وقت لآخر توقع البروتوكولات والإتفاقيات مع الوزارات والمؤسسات المختلفة من أجل خدمة مجتمعية أفضل وأكثر عمقا، وهو ما انعكس فى رحلات الكنيسة وانفتاحها على الخارج، حيث تواصل خدمتها ممتنة للوطن وعاكسة لدوره ورياديته.

قوة الكنيسة
تعد الكنيسة المصرية أقدم وأعرق المؤسسات المصرية، كما تتمتع بهيكل تنظيمي وإداري ضخم، ومع أدوارها الروحية تمارس الأدوار المجتمعية والوطنية بشكل متواصل، حيث لم يكتف البابا تواضروس بالدور الروحي والمجتمعي داخليا وقط، بل حرص جيدا على التوسع فى الخدمة والرعاية، بل والتحرك بالكنيسة على المستويات الوطنية، الإقليمية والدولية أيضا، فانتشرت الإيبارشيات بالخارج _كنائس وكاتدرائيات تقام على مقاطعات جغرافية تخدم الجاليات القبطية وكل من يطلب روحيا ومجتمعيا_ ونمت أنشطتها.

غير أن توسعات الكنيسة بالخارج جاءت متنوعة، فلم تتحرك فى اتجاه الغرب أو الجنوب وقط، بل امتدت أيضا إلى الشرق وتحديدا دول الخليج، حيث السعودية والإمارات أيضا الكويت، اقتربت الكنيسة أكثر فى ترسيخ حقيقي للقيم الإنسانية، وما تحويه من مفاهيم الود والتعايش.

ولعل زيارة روما تعد مقاربة ونموذجا واضحا على إسهام الكنيسة القوي والفاعل فى صياغة السياسة الخارجية المصرية، كونها القوة الناعمة والقادرة على إحداث التقارب ما بين القاهرة وروما من جانب والقاهرة والفاتيكان من جانب آخر، عبر قبول واضح ولقاء أخوي بين الكنيستين البارزتين إقليميا ودوليا _الأرثوذكسية والكاثوليكية_، والأهم زيارة تاريخية، فيها تحرك البابا ضد التيار غير مستسلم أو عابئ بمهاترات أقل من أن يقال عنها إنها عقائدية، تحرك طالبا المحبة فقط ولا أكثر، متوسما فى غدٍ أكثر هدوءا، منتظرا عمل القدير، من أجل إتمام الوحدة الحقيقية والمبنية على أطر السلام والإخوة، وبعيدا عن أية صراعات.

غير أن كلمة البابا تواضروس الشهيرة فى ساحة الفاتيكان جسدت روعة التوازنات وكيفية إدارة الأزمات، ولعل أبرز ما جاء فيها "لقد اخترنا المحبة.. حتى لوكنا نسير عكس تيار العالم الذاتي.. لقد قبلنا تحدي المحبة.. وسيصبح العالم أكثر إنسانية.. ليعرف العالم كله أن الله محبة"، وانطلاقا من الدور الدبلوماسي المعتاد، كان قداسة البابا أيضا على موعد مع سفاراتنا المتعددة ما بين روما والفاتيكان وحتى قنصليتنا فى ميلانو واخيرا فيينا، كما التقى قداسته سفراء مصر ودبلوماسييها.

[email protected]