إنشغل العالم خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي بحدث تمرد مليشيا فاغنر الروسية، التي يقودها المدعو بريغوجين، الملقب بطباخ بوتين، وهو خريج سجون ورجل أعمال فاسد من دائرة الأوليغارشية المقربة لبوتين، تم تشكيلها عام 2014 كشركة عسكرية خاصة، أغلب مرتزقتها أرباب سجون يُستخدَمون كمرتزقة للحروب. وفعلاً تم إستخدامها في نفس العام من قبل بوتين بمعارك دونباس والقرم. ثم قامت بتوسيع نشاطها حول العالم لأكثر من 20 دولة. وقد دعّم الجيش الروسي صفوفه بوحدات منها بعد هزيمته أمام القوات الأوكرانية في القتال الذي دار قرب كييف بداية الغزو. وهي المسؤولة عن جرائم الإبادة التي شهدتها مدينة بوتشا. وكانت حتى الأمس ذراع بوتين الضاربة في حربه العدوانية على أوكرانيا.

من التمرد إلى التراجع خلال 24 ساعة، يُسَلط تمرد ميليشيا فاغنر الضوء على نقاط ضعف نظام بوتين ونموذج مليشيات المرتزقة الذي شجعه في روسيا، وإستغله خارجها لسنوات لتعزيز نفوذه عبر إستخدامها في النزاعات الدولية والحروب الأهلية، كما في ليبيا وسوريا والسودان، وفي الوقت نفسه، يمكن له أن ينكر تورطه بهذه النزاعات! لقد ساهم الدور الذي لعبته ملشيا فاغنر في الغزو الروسي لأوكرانيا بتغولها وطموحها بأن تصبح لاعب سياسي في روسيا يفرض أرادته على الآخرين، ما أظهر ضعف الجيش الروسي وقياداته وأجهزته الإستخبارية، التي لم ترصد تحركات فاغنر حتى باتت على أعتاب موسكو في غضون أقل من 24 ساعة، ولم يواجهوا مقاومة تذكر، وسيطروا على مدن ستراتيجية وقواعد عسكرية مهمة مثل روستوف، وأسقطوا طائرات ومروحيات تابعة للجيش الروسي! بالمقابل حين قامت قطعات من الجيش بالتمرد ضد غورباتشوف عام1991عارض السكان أولئك المتمردين، لكننا لم نرى هذا الأمر من سكان روستوف وفورونج حين دخلتها فاغنر! فمقاطع الفيديو المتداولة، تُظهر سكان روستوف وهم يستقبلون أفرادها بالترحاب ويهتفون لهم، وزعيمهم بريغوجين تحديداً تم إستقباله كبطل بعد أن أظهر نفسه مراراً كزعيم، لأن خطابه القومي المتطرف كان مُرَحبّاً به من قبل بوتين. وهو مؤشر على أن بريغوزين وفاغنر وأمثالهم أصبحوا بديلاً لأولئك الذين لم يعودوا راضين عن أوضاع روسيا.

ما حدث كان ضربة قاسية لبوتين، أثبت بأنه لم يعُد عصيّاً على المَساس. فقد شاهد تهديدات بريغوجين وهجماته المتزايدة على قيادة الجيش دون تعليق، وتراجع عن مُحاكمة المتورطين بما أسماها طعنة الظهر، ووعد بدمجهم في الجيش. أعطى بوتين عن نفسه صورة مترددة غير حازمة تتناقض مع صورة القائد الذي لا يُنازع والمُمسِك بمقاليد سلطته، التي يرسمها لنفسه ويسوقها لقطعانه حول العالم، إذ يقال أنه صُدِم من سرعة فاغنر في الإندفاع بإتجاه موسكو! لقد تصدع هذا النموذج الآن، والذي إعتمد فيه بوتين بشكل كبير على الأجهزة الأمنية الرسمية وغير الرسمية، وكان يظن بأنه عامل التوازن بين مصالحهم المتنافسة. أما ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لحكم بوتين على المدى المتوسط والطويل، فلا يمكن توقعه حتى الآن. بوتين يسعى لإعادة إنتخابه في العام المقبل، لذا قام بتعديل الدستور، ومِن غير الواضح إذا كانت خطته ستنجح. وقد بدأت شظايا التمرد تطال هيكل السلطة الداخلي، كما حدث قبل أيام من عزل لسوروفيكين نائب قائد القوات الروسية بأوكرانيا، بعد إتهامه بأنه مع ما لا يقل عن30 من كبار المسؤولين العسكريين والإستخباراتيين الروس مسجلين كأعضاء في فاغنر، وربما ستطال خلال الأسابيع المقبلة القيادات البارزة لنظام بوتين، مثل وزير الدفاع شويغو، رئيس الأركان جيراسيموف ورئيس مجلس الأمن القومي باتروشيف. المهم بات واضحاً بعد التمرد بأن إمكانية نهاية حكم بوتين ممكنة، وفكرة بأنه قد يكون هناك رئيس آخر غيره خطرت فعلاً بأذهان الناس، وسيناقشوها على طاولات الطعام. لذا هو يسعى حالياً وبالأساس لتأمين نفسه ومنصبه. بالتالي أظهر التمرد المخاطر الكامنة بهذا النظام، وضرورة القضاء عليه وإستبداله بنظام إنساني ديمقراطي ليبرالي، عبر تنفيذ مشروع شبيه بمشروع مارشال الأمريكي في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

رد الفعل المتواضع على تمرد مليشيا فاغنر، وزحفها نحو موسكو دون أن يعترضها أحد. والخطاب الذي ألقاه بوتين وبدا فيه كأنه لا يعلم ما يحدث، وهلوساته كالعادة عن التأريخ والغرب. وظهور ديكتاتور بيلاروسيا لوكاشنكو فجأة للعب دور الوسيط، رغم أن الجميع يعلم أنه ذيل لبوتين، ولم يكن سوى دمية لإيصال الرسالة. وأخيراً إفلات بريغوجين من العقاب، وحصوله على تصريح مرور لبلاروسيا، على الرغم من أنه هاجم بوتين وجنرالاته بشدة! كل هذه الأمور دفعت البعض، تحديداً أتباع نظرية المؤامرة، وأغلبهم من أنصار بوتين، وهم اليوم كُثُر بين أتباع اليسار واليمين والمسلمين والمسيحيين المتدينين، الى طرح فرضيتهم لما حدث، التي تتماشى مع هلوسات أفراده وتحافظ على صورة بوتين في أذهانهم كراعي يعلم دائماً كيف والى أين يسوق قطعانه التي على شاكلتهم! الفرضية هي أن ما حدث لم يكن من تداعيات جريمة الغزو والإعتماد على المرتزقة في الحروب، بل سيناريو مُنَظّم كتبه وأداره بوتين مع بريغوجين لإظهار روسيا ضعيفة أمام أوكرانيا والغرب بهدف خداعهم، لأنهم لا يريدون الإقرار بأنها باتت فعلاً كذلك بسبب سياساته الرعناء، ومن ثم يذهب بريغوجين مع أتباعه إلى بلاروسيا، وفي مرحلة تتحقق أمانيهم المريضة بأن يهاجم الغرب وأوكرانيا من الشمال. فمسيرة بريغوجين إلى موسكو تبدو لهم كمسرحية. إلا إن أن هذه الفرضية لا تصمد أمام حقيقتين مهمتين. الأولى أن بريغوجين لم يعد على إتصال مباشر مع بوتين منذ أشهر، كما في الأيام الأولى للحرب، لأن بوتين تجاهله وأهمل قواته، وقطع عنها الإمدادات. والثانية أن فاغنر باتت ضعيفة للغاية، وليس كل المرتزقة سيتبعون قائدهم إلى بلاروسيا، بالتالي عملياً لم تعد المليشيا تشكل عاملاً مهدداً ولا حتى مؤثراً في الحرب. وأي حديث عن وجود لعبة بين بوتين وبريغوزين ساذج وغير واقعي. على العكس، ما حدث يمكن أن يلحق ضرراً كبيراً بسلطة بوتين، ويُضعِف حربه العدوانية ضد أوكرانيا.

على الرغم من أن الطباخ بريغوجين أفلت حالياً من العقاب، إلا أن إحتمالية سقوطه من نافذة بيته وتذوقه للسم الذي لطالما طبخه لأعداء سيده تبقى واردة، كالنائب الروسي بافيل آنتوف الذي سقط عام 2022 من نافذة فندق في الهند! أو ضابط المخابرات والسكرتير الثاني للسفارة الروسية في برلين الذي سقط عام 2021 من نافذة المبنى القنصلي في برلين! أو رافيل ماجانوف رئيس شركة لوك أويل ثاني أكبر شركة للنفط والغاز في روسيا الذي سقط من نافذة أحد المشافي في موسكو بعد دعوته لإنهاء الحرب في أوكرانيا! وأخيراً وليس آخراً مارينا يانكينا رئيسة الإدارة المالية للقيادة الغربية للجيش الروسي التي سقطت من نافذة شقتها في الطابق 16. لذا يفترض أن يستمر بالخوف على حياته، لأن بوتين لا يغفر لمن يعارضونه حتى لو أعطاهم الأمان، كما أن بقاء بريغوجين بعد ما حدث سيبقى يمثل تهديداً له بغض النظر عن مكان وجوده، فإنتقاداته الأخيرة للحرب وصلت إلى الجنود في الجبهة، وزعزعت معنوياتهم الضعيفة أصلاً، وخلال الأسابيع الأخيرة رسم بريغوجين لوحة قاتمة للحرب التي تشنها روسيا ولما بعدها! لذا لا أحد يعلم ما الذي سيحدث له ولفاغنر؟ فتفاصيل الإتفاقية التي تَفاوَض لوكاشينكو عليها مع فاغنر لا تزال غير معروفة، وسيبقى باب التساؤلات مفتوحاً حول ما سيفعله بريغوجين في بيلاروسيا؟ وما سيحدث لفاغنر وعملياتها في الخارج؟ هل ستصبح تحت إشراف وزارة الدفاع لتستخدمها روسيا رسمياً؟ من سيُمولها مستقبلاً؟ كل هذا غير واضح الآن!

بالنهاية ماذا يعني كل هذا بالنسبة للحرب؟ فمليشيا فاغنر لعبت دوراً أساسياً في غزو أوكرانيا، بل وأكثر من الدور الذي لعبته قوات الجيش الروسي النظامي في أغلب الجبهات وأصعبها! بالتالي من المُرَجح أن ينعكس هذا الأمر سَلباً على عمليات الجيش الروسي ضد أوكرانيا، وإيجاباً على عمليات الجيش الأوكراني لإستعادة أراضي بلاده. لذا واصل الجيش الروسي هجماته على أوكرانيا يوم التمرد بلا هوادة، ليعطي الإنطباع بأنه لا يزال قوياً بفاغنر أو بدونها.


[email protected]