الديمقراطية الليبرالية وقيمها عن الحرية والفردية والمساواة والعولمة والليبرالية الاقتصادية التي روجتها الدول الغربية لردح من الزمن وصدرتها للعالم على انها ذروة التطور الأيديولوجي للانسان ونهاية تاريخه وفق ما طرحه المفكر السياسي الأمريكي "فوكوياما"، قد تلقت ضربة قاصمة بسبب الحرب الأوكرانية الروسية وعواقبها "الجيوسياسية" المحتملة في أوكرانيا و أوروبا والعالم، وقبل هذه الحرب فان المشروع الامريكي "الديمقراطي" قد مني على يد العراقيين باخفاق كبير وفشل على النطاق التطبيق العملي بعد الغزو الامريكي 2003 حيث واجه فكرا دينيا شعبويا متشددا اخذ ينتشرو يتوسع ويهيمن على السلطة ويرسخ سطوته على الدولة العراقية بشكل كامل، سواء عن طريق القوة الغاشمة عبر تشكيل مجموعات وفصائل مدججة بالسلاح اواللجوء الى آليات ديمقراطية غربية مثل الدستور والبرلمان والمحاكم وتنظيم الانتخابات أو من خلال نشر الفساد وترسيخه في المجتمع وتحويله الى ظاهرة ثقافية واجتماعية سياسية واقتصادية ضاربة في الأعماق وفق استراتيجية ثابتة، وقد نجح اصحاب هذا الفكر الظلامي من خلال توليهم الحكومات العراقية المتعاقبة من تحقيق هدفهم "الاستراتيجي" واستطاعوا من خلال عملهم الدؤوب في هذا المجال من تعطيل المشروع الامريكي في العراق وضربه في الصميم.
واذا ظننت لبرهة ان هذا التمدد الخطير لغول الفساد في العراق جاء من دون خطة مدبرة ومعد لها سابقا فانت مخطيء، فكل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2005 ساهمت بشكل او بآخر في تفاقم الفساد وتحويله الى بعبع يبلع العراق والعراقيين جميعا.
لا يمكن لمافيا الفساد ان يتغلغل في اهم مفاصل الدولة وتخضعها لارادتها في ظل حكومة وطنية حريصة على مصلحة الشعب، الا اذا كانت تشارك تلك المافيات في نهب البلد وتدميره!
أمريكا ارادت تطبيق نموذجها الديمقراطي في العراق والمنطقة من خلال الغزو واسقاط النظام وفرض الامر الواقع ولكنها تجاهلت القوى والميليشيات الراديكالية التي اخذت تنمو وتترعرع وتزحف نحو السلطة المطلقة تحت انظارها وربما برعايتها ودعمها المباشر وقد يكون بين الطرفين اتفاق سياسي غير معلن يقضي بالتزام الطرفين بالسلام المشترك ووقف الاعمال العدائية ضد بعضهم البعض، الامريكان يمتنعون عن التدخل في الشؤون الداخلية التي تديرها الفصائل والميليشيات والقرارات التي تتخذها ضد الكرد والسنة، مقابل السماح لهم ببقاء قواعدهم في العراق وضمان استمرار تدفق صادرات النفط الى بلادهم بسلاسة!
هذا ما اراه واستنتجه من حالة "السلام" القائمة بين الطرفين ووفق رؤية استقرائية، فلا الميليشيات تستهدف السفارات والقواعد العسكرية للقوات الامريكية ولا تطالبها بالرحيل من البلاد، وهي ملتزمة ومتفقة مع باقي الاحزاب والقوى السياسية العراقية على ابقاء القوات الامريكية في العراق بحسب تصريح رئيس اقليم كردستان "نيجيرفان بارزاني"، وبالمقابل ووفق هذه الاتفاقية ــ الضمنية ــ تلتزم امريكا السكوت التام ازاء الفساد المستشري في البلاد وغض الطرف عن السياسة التأديبية الانتقامية التي تمارسها الحكومات الشيعية ضد اقليم كردستان الحليف "التاريخي" الوحيد لها في العراق والمنطقة ــ حسب تصنيفات بعض المراقبين!.
فكيف لنا ان نفسر هذا التصرف السياسي اللا اخلاقي من جانب الامريكيين بحق الشعب الكردي الوحيد من بين الشعوب العراقية الذي رحب بالقوات الامريكية الغازية ودعمها، الا اذا كانت بينها وبين بغداد اتفاقية لتخفيف التوتر بينهما واعادة علاقتهما الى حالتها الطبيعية على اساس المصالح المشتركة.
مهما يكن موقف امريكا المتميع فان مشروعها الديمقراطي الليبرالي في العراق قد فشل فشلا ذريعا ولم يصمد امام صواريخ الميليشيات وفشلت معه نظرية "فوكوياما" في تحديد نهاية للتاريخ البشري!
التعليقات