رغم أن الجغرافيا واحدة، واللغة مشتركة، والانتماء القومي لا خلاف فيه، إلا أن بين المجتمعين الإيزيدي والكردي المسلم مسافة نفسية واجتماعية لا تزال قائمة. سؤالٌ ظل مطروحًا لسنوات، يردده المهتمون بالشأن الكردي: لماذا لا يحدث اندماج حقيقي بين الإيزيديين وبقية الأكراد؟
وكيف يمكن لشعبٍ أن يتقاسم الأرض واللغة والمصير، ومع ذلك يعيش في عزلة داخلية عن نفسه؟
هذا هو واقع العلاقة المعقّدة بين الإيزيديين والكرد المسلمين، حيث لا تزال الجدران النفسية والدينية تفصل بينهما، رغم الانتماء القومي الواحد.
هل الماضي المليء بالاضطهاد هو السبب؟ أم أن بعض رجال الدين والسياسات الحزبية غذّت هذا الانفصال؟
وهل لا يزال هناك أمل لبناء مجتمع كردي متماسك يحترم التعددية ولا يخشاها؟
أولاً: جراح التاريخ لم تندمل
لم يكن التاريخ رحيمًا بالإيزيديين. فقد تعرّضوا لعشرات الحملات الوحشية، المعروفة بـ"الفرمانات"، وارتُكبت بحقهم مجازر مروعة خاصة في العهد العثماني، حين اعتُبروا "كفارًا" يُستباح دمهم.
هذه التجارب المؤلمة خلّفت جرحًا عميقًا في الذاكرة الجمعية للإيزيديين، ما ولّد حالة من الحذر الشديد تجاه المسلمين، حتى وإن كانوا أكرادًا مثلهم.
ثانيًا: رجال الدين… بين التقريب والتفريق
للأسف، ساهم بعض رجال الدين المسلمين في تعميق الهوة، من خلال فتاوى ومواقف تشكك في عقيدة الإيزيديين وتصفهم بأوصاف غير إنسانية.
وبعض الفءات الكردية كانت وما زالت تمتنع عن شراء الطعام من الإيزيديين بدعوى "عدم الطهارة"، وهو افتراء لا أصل له في القرآن الكريم ولا في سُنّة النبي ﷺ.
الإسلام الحقيقي يدعو إلى العدل، ويكرّم الإنسان بصفته الإنسانية، لا بعقيدته.
قال تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 256]، وهي آية صريحة تُلغي أي دعوى لفرض الدين أو التمييز العقائدي.
إن مسؤولية تصحيح هذه المفاهيم تقع اليوم على عاتق رجال الدين المعتدلين، الذين يفترض أن يرفعوا هذا الظلم الأخلاقي والديني عن مجتمع مسالم مثل المجتمع الإيزيدي.
ثالثًا: الإيزيدية… ديانة مسالمة تُحترم لا تُدان
الديانة الإيزيدية، رغم كل ما قيل عنها، هي ديانة توحيدية، تؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وهي بذلك تتقاطع مع القيم القرآنية التي تعتبر أن "من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
لكل دين رموزه وأنبياؤه، كما للمسلمين نبيهم محمد، فللإيزيديين رموزهم الروحية، وأبرزهم "الملك طاووس" الذي يُفهم ضمن سياقهم الديني الخاص.
وهم لا يسعون إلى فرض دينهم على أحد، بل يميلون إلى الانغلاق والدفاع عن خصوصيتهم، عكس ما نراه أحيانًا من محاولات بعض المسلمين لفرض معتقداتهم على الآخرين.
كلما ازداد وعي الإنسان، فهم أن الله لا يحتاج إلى طقوس شكلية، بل إلى عدل ورحمة وحرية. وكلما ازداد تحرّره من الخوف، ازداد قربًا من الله حبًا لا رهبة.
فالدين ليس وسيلة للهيمنة بل دعوة لحياة تقوم على القيم الإنسانية.
رابعًا: الاختلاف لا يلغي الانتماء
صحيح أن الإيزيديين والكرد المسلمين يتحدثون نفس اللغة – الكردية – لكن هذا لا يعني ذوبان أحدهم في الآخر.
فاللغة لا تفرض وحدة الهوية. خذ مثلًا الشعوب الناطقة بالإنجليزية في أمريكا وبريطانيا وأستراليا: اللغة واحدة، لكن الثقافة والانتماء والسياق مختلف.
وهكذا هو الحال مع الكرد من ديانات مختلفة.
فليس كل كردي مسلم يمثّل "القومية الكردية" وحده، كما أن الإيزيدي لا يفقد كرديته لمجرد اختلافه العقائدي.
خامسًا: الأحزاب السياسية… بين التوظيف والإصلاح
للأسف، لم تلعب بعض الأحزاب الكردية دورًا إيجابيًا في احتواء المجتمع الإيزيدي، بل تم تجاهل قضاياهم بعد النكبات الكبرى، أو توظيفهم سياسيًا بحسب المصلحة.
لكن، من الإنصاف القول إن بعض الأحزاب قدّمت خطوات جيدة من خلال تمثيل الإيزيديين في البرلمان والحكومة، وهذا يدل على أن الإرادة السياسية قادرة على تقليص الفجوة.
سادسًا: ما الذي يمكن أن يوحّدهم؟
رغم كل شيء، هناك عوامل يمكن أن تُبنى عليها جسور التقارب، ومنها:
اللغة المشتركة: الكل يتحدث الكردية.
الانتماء القومي: الإيزيديون جزء أصيل من الشعب الكردي.
المعاناة المشتركة: ما جرى للإيزيديين على يد داعش، شبيه بما تعرّض له أكراد حلبجة والأنفال.
التجارب المحلية الناجحة: في قرى ومناطق عديدة، تعايش الطرفان بسلام وود.
النخب الواعية: من المثقفين ورجال الدين المعتدلين الذين يمكنهم إعادة بناء الثقة إذا تبنّوا خطابًا جامعًا لا إقصائيًا.
الخلاصة:
الاندماج لا يعني إلغاء الخصوصيات، بل احترامها تحت سقف قومي ومدني مشترك.
على الكرد المسلمين أن يدركوا أن تمثيلهم للدين لا يمنحهم امتلاك "الحقيقة المطلقة"، وعلى الإيزيديين أن يشعروا بالأمان في فضائهم الكردي العام.
فالتعددية لا تهدد الهوية بل تثريها. وإذا أردنا مستقبلًا مشتركًا، فعلينا خلع عباءة التعصب، وارتداء ثوب المواطنة.عدونا الحقيقي ليس دين الآخر، بل الجهل والانغلاق والطائفية.
النجاة ليس في الصراع، بل في بناء وطن يتسع للجميع… وطن يجمع لا يفرّق، يحمي لا يُقصي..
التعليقات