في خضم الاضطرابات السياسية والتذبذب الذي يعصف بالأنظمة العالمية، لا سيما في قطاع التعليم، يشهد التعليم العالي والبحث العلمي تشظيًا متسارعًا وسط موجات الرأسمالية العالمية التي يقودها الليبراليون الجدد. تبرز منطقة الشرق الأوسط وجنوب وشرق آسيا، إلى جانب الدول الأوروبية، كساحات رئيسية لتضخم الأبحاث العلمية، حيث تتصدر الصين هذا المشهد كقوة جبارة تنتج كمًا هائلاً من الدراسات. فعلى سبيل المثال، شهد عام 2022 وحده نشر ما يقارب 2.8 مليون ورقة بحثية عالميًا، بزيادة نسبتها 50 بالمئة مقارنة بالإنتاج البحثي خلال الفترة من 2015 إلى 2022. هذا التضخم المفرط أصبح سمة بارزة في العديد من الدول المتقدمة، التي باتت تعاني من إدمان النشر الأكاديمي.
خذ النرويج مثالاً: في عام واحد، أنتجت مؤسساتها العلمية حوالى 19 ألف ورقة بحثية، لكن 30 بالمئة منها فقط حظيت بالاستشهاد العلمي بين مرة وخمس مرات في أبحاث أخرى. أما نحو ستة آلاف ورقة أخرى، فقد ظلت بلا أيّ تأثير في قواعد البيانات العالمية، مما يكشف عن أزمة عميقة في جدوى هذا الإنتاج. هذه الحالة ليست حكرًا على النرويج، بل تمثل نموذجًا لتحديات تواجهها الدول المتقدمة. في هذا السياق، قدم الباحث أكسنيس من المعهد النورديك للابتكار والبحث والتعليم رؤية ثاقبة عام 1999، حين أشار إلى أن "غالبية الأبحاث المنشورة تفتقر إلى أهمية علمية جوهرية، وسيظل الأمر كذلك ما دامت الفجوة قائمة بين الابتكار الحقيقي والنتائج العلمية".
عند مقارنة النرويج بدول الشرق الأوسط، مثل العراق، تظهر اختلالات واضحة في المعايير، لكن مشكلة تضخم الأبحاث تبقى مشتركة وملحة. في الدول المتقدمة، أصبح هذا التحدي محور نقاش بين الباحثين والمؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام، مما يعكس وعيًا متزايدًا بضرورة مواجهته. من هنا، بات من الضروري إعادة تقييم الأبحاث المنشورة، ووضع معايير أكثر دقة وعلمية لتعزيز جودة البحث العلمي. اقتراحات مثل زيادة عدد المراجعين إلى أربعة، مع اشتراط موافقة ثلاثة منهم لقبول الورقة البحثية، قد تساهم في الحد من هذا التضخم، وتمنع انتشار الأبحاث المزيفة أو المسروقة أو المنتحلة، وهي آفات باتت تهدد المشهد الأكاديمي في العديد من الدول.
وفي الختام، يطرح السؤال نفسه: كم من مؤسسات التعليم العالي في العراق وإقليم كردستان قادرة على الصمود أمام هذا التحدي؟ الإجابة مرهونة بما ستكشفه الأيام القادمة.
التعليقات