هل كان العالم شرقاً وغرباً يعلم شيئاً عن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2024؟ أكاد أجزم أنّ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، يوم انطلاق عملية طوفان الأقصى، شكّل منعطفاً مهماً في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فحتى لو لم نكن من المؤيدين لهذه العملية، وما نتج عنها من حرب كارثية غير متكافئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وحتى لو سلّمنا بأنّ هذه الحرب كان محكوماً عليها بالخسارة من البداية، فإننا لن نستطيع أن ننكر أنّ هذه الحرب هي التي جعلت ملايين الناس حول العالم يتعرفون على القضية الفلسطينية لأول مرة في حياتهم، بالرغم من أنّ عمر هذه القضية عدّة عقود. بل إنّ حرب غزة الأخيرة صفعت العالم صفعة جعلته يتفكر ويراجع نفسه ويطرح الكثير من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة. هذه الحرب جعلت ملايين الناس عبر العالم، وبضمنهم اليهود أنفسهم، يختبرون إنسانيتهم ويشككون بها وبوجودها أصلاً.

الكثير منّا، نحن البشر الأسوياء، نحسب أنّ البشر كلّهم أسوياء، مثلنا نحن، وكلّهم لهم نفوسنا البشرية التي تتميز بالمشاعر الإنسانية، مثل الشعور بالرحمة والشفقة والتعاطف تجاه الآخرين من البشر، حتى أولئك الذين لا نعرفهم معرفة شخصية. بل إننا لم نكن ندري أنّ مخلوقات أخرى، نفترض أنّها بشرية لأنها تمتلك الشكل البشري الخارجي الذي نألفه، والذي يتشابه إلى حد ما مع أشكالنا الخارجية، تستطيع أن تمارس أشكالاً لم نألفها ولم نكن نعلم بوجودها أصلاً من الاحتيال، والتدليس، والتضليل. فكم منا سمع بما يسميه علم النفس بالتلاعب النفسي، وهو تكتيك يحاول به شخص ما أن يجعل شخصاً آخر يشكك في إدراكه للواقع، وفي ذاكرته، وفي عقله؟ وهذه التكتيكات، التي لا يعلم بوجودها ولا بكيفية تفعيلها واستخدامها الكثير من الأفراد الأسوياء والبسطاء، يكون الهدف من استخدامها هو امتلاك السيطرة من أجل إلحاق الأذى والإساءة لفرد، أو جماعة، أو مؤسسة، أو حتى دولة. فهذه التكتيكات الخبيثة ليست حكراً على الأفراد غير الأسوياء، وإنّما تلجأ لها الدول أيضاً لانتهاج سياسات غير سوية ومؤذية تجاه الأفراد والدول الأخرى.

ويمكننا القول إنّ لا أحد ينافس المعتنقين للفكر الصهيوني في انتهاج سياسة التلاعب النفسي الذي يمارسونه منذ عشرات السنين تجاه اليهود أنفسهم من جهة، وتجاه العالم برمته من جهة أخرى. سياسة التلاعب النفسي هذه تجعل من يتبنى الفكر الصهيوني ينكر الواقع، ويشوه الأحداث، ويغيّر الروايات لكي يجعل اليهود، وكذلك العالم، يفقد ثقته بكل مصدر آخر لا يوافق هذا الفكر. بل إنّ له القدرة أن يجعل شعوب العالم وأفراده يبدؤون التشكيك حتى بأنفسهم وبصواب أحكامهم، أو يجعلهم يظنّون أنّ المعلومات التي حصلوا عليها من مصادر تاريخية رصينة ومعتمدة هي مجرد خيال يدور في أدمغتهم لا غير، وأنّه لا أساس لها من الصحة. ودائماً ما يلجأ هذا الفكر الصهيوني إلى استغلال عواطف اليهود والعالم استغلالاً مرعباً ووقحاً عندما يُواجَه بأدلة دامغة على ممارساته الإجرامية، وذلك عن طريق تكرار إنكار الحقائق وليّها لجعل الآخر يرتاب بعقله وإدراكه، أو اتهام الآخر بأنّه معادٍ للسامية.

فالتكرار، كما يؤكد عالم النفس توم ستافورد، يُزيد من مصداقية الحقائق ليجعلها تبدو موثوقة أكثر، حتى لو كانت هذه الحقائق مختلقة، أو غير دقيقة. وقد نجحت إسرائيل في استخدام هذا التكتيك عبر عشرات السنين عبر تلفيق الأكاذيب، وإعادتها مراراً وتكراراً، حتى جعلت اليهود أنفسهم والعالم كذلك يصدقها، ويعتبرها مسلمات غير خاضعة للبحث والنقاش. وربما تعلمت إسرائيل هذه الحيلة النفسية من رئيس الدعاية في الحزب النازي الدكتور بول جوزيف جوبلز، الذي عينه هتلر في عام 1933، في منصب وزير التوعية العامة والدعاية. فكان جوبلز يقول: ما عليك إلاّ أن تعيد وتكرر كذبة ما، وتظلّ ترددها وتعيدها حتى تصبح هذه الكذبة حقيقة. وقد أصبحت مقولة جوبلز هذه أحد قوانين الدعاية والحرب النفسية التي تستعملها الدول والشركات عندما تريد تسويق الأكاذيب على أنّها حقائق. ويطلق علم النفس على هذا التكتيك (تأثير أوهام الحقيقة).

وقد استخدم الفكر الصهيوني هذا التكتيك، تكتيك (تأثير أوهام الحقيقة)، عندما أوهم العالم برمته أنّ كل من ينتقد الفكر الصهيوني، وينتقد الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، فإنّه بالضرورة معادٍ لما يسميه هذا الفكر بالسامية. وقد صدق العالم هذه الأكذوبة لأنّ هذا الفكر ظلّ يرددها على مسامع العالم برمته مراراً وتكراراً، وعبر عقود من الزمن، حتى صدّقها الجميع، ولم يعد أيّ أحد يجرؤ على فتح فمه ليفضح هذه الكذبة ويصححها. فانتقاد سياسات حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني، وحرب الإبادة والتجويع والإذلال التي تمارسها في غزة لا يمثل معاداة للسامية بمعناها الدقيق، خصوصاً إذا علمنا أنّ الشعوب السامية هي الشعوب التي سكنت منطقة الشرق الأوسط وهم العرب، واليهود، والأكديون، والفينيقيون. وهذا يعني أنّ اليهود ليسوا جميعهم ساميين. فاليهود الذين قدِموا إلى أرض فلسطين من دول أخرى كأوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، وغيرها، ليسوا ساميين، لأنهم لم ينحدروا من سلالة الساميين الذين قطنوا الشرق الأوسط، وكذلك لأنهم لا يتكلمون أيّ لغة من اللغات السامية.

كان من السهل في الماضي على مستوى الأفراد والدول ممارسة سياسة السرية وإخفاء المعلومات، والتستر على الكثير من الجوانب التي يصعب وصول أعين الناس لها، ويتعذر كذلك تغطيتها من وسائل الإعلام التقليدية. فالإعلام التقليدي الذي كنّا نعرفه في الماضي كان لا يتعدّى محطات الإذاعة والتلفزيون المحلية والدولية، إضافة للصحف والمجلات الورقية. بل وحتى هذه الوسائل الإعلامية كان معظمها يخضع لرقابة صارمة من الدول. إلاّ أنّ تطبيق تيك توك والأشرطة المصوّرة التي يبثها أهل غزة، ويبثّها كذلك الصحفيون والمراسلون عن حرب غزة، وعن جرائم إسرائيل ووحشيتها، التي فاقت كلّ وحشية شهدها التاريخ الحديث، بما فيها جرائم النازية، طافت الكرة الأرضية برمتها ودقت على باب كل مسكن ومحل ودائرة ومتجر وسوق وشارع وزقاق فيها، فكانت ككرة النار التي تتدحرج تدحرجاً سريعاً وتشعل الحرائق هنا وهناك، دون توقف، وتظلّ تتدحرج إلى ما لا نهاية حتى لا تبقى بقعة واحدة غير مشتعلة بحرائق كرة النار المتدحرجة. هذه الأشرطة أوقظت العالم المخدّر النائم على أكاذيب إسرائيل حول السامية، والأرض المقدسة التي وعد الله اليهود بها، وحول الشعب المختار الذي من حقه أن يفعل كل ما يشاء، دون أن يحاسبه الآخرون، وحول مظلومية الشعب اليهودي، وديمقراطية الشرق الأوسط الوحيدة.
تعليقات ملايين الناس حول العالم على هذه الأشرطة المصوّرة لتيك توك تجعلك تدرك أنّ الرأي العام العالمي برمته قد أصبح ناقماً ومعادياً لسياسة الإبادة الجماعية، والتهجير، والتجويع التي تمارسها إسرائيل في غزة. العالم يشهد لأول مرة في تاريخه هذا الكم من الدعم المعنوي لقضية فلسطين بعد أن انكشفت الأوراق وظهرت الحقيقة. لقد عملت هذه الأشرطة على تثقيف الناس، بما فيهم الكثير من اليهود أنفسهم، وخصوصاً الشباب، بشأن هذه القضية، وفضحت ما تقوم به حكومة الاحتلال منذ عقود من قمع وتهجير وإبادة للشعب الفلسطيني. كذلك فإنّ هذه الأشرطة قد خلقت تعاطفاً عالمياً، حتى من أكثر الناس قسوة وجبروتاً، وهم يشاهدون أهل غزة يذبحون، وتقطّع أوصالهم، وتفجّر منازلهم فوق رؤوسهم، وينزحون إلى العراء حيث لا مسكن يأويهم، ولا طعام يبقيهم على قيد الحياة. لقد غيّرت هذه الأشرطة ماهيّة ملايين الناس حول العالم، وفتحت عيون كثير من اليهود، وخصوصاً الشباب، الذين غُسلت أدمغتهم منذ الطفولة، ولُقّنوا الفكر الصهيوني، دون تفكير وتأمل وتمحيص، وشكّلتهم بشراً من نوع جديد، فلم يعودوا قادرين على العودة لهيئتهم الأولى من الإنكار والتغافل عن الجرائم بحق بشر آخرين مثلهم تماماً.

جمهور تيك توك، ومنهم يهود العالم، الذين شاهدوا حرب الإبادة في غزة بكل تفاصيلها الموجعة، أصيبوا بصحوة مفزعة جعلتهم يستيقظون على قضايا لم يسمعوا بها من قبل، ومنها القضية الفلسطينية، والاستيطان وما فعلته العصابات الصهيونية عبر السنين. بل إن إدراكهم لحقيقة وجود دولة واحدة في العالم قادرة على أن تأمن عقاب المجتمع الدولي بأسره، وقادرة على الإفلات من العقاب على جرائمها بحق الفلسطينيين المدنيين العزّل، ترعبهم وتجعلهم يدركون أنّ الإنسانية قد تلاشت، وأنّهم لم يعودوا قادرين على شرح ما يحصل لأطفالهم. بل إنّهم لا يفهمون كيف سمح المجتمع الدولي بحدوث كل هذه المجازر على مرأى ومسمع الجميع وبقي صامتاً ومتجاهلاً.

أشرطة تيك توك المصوّرة جعلت العالم يدرك أنّ الإنسانية قد ماتت، وبدأ الكثير منهم يشكك بإنسانيته، ويشكك كذلك بالروح التي تسكن الآخرين، ومدى بشريتهم، طالما أنّ إنسانيتهم لم تهتز ولم تتأثر، بعدما شاهدوا كلّ الذي حصل في غزة من إبادة يومية تقشعر لها الأرواح. لقد بدأ الكثير من المعتنقين للفكر الصهيوني يراجعون أنفسهم بعد مشاهدتهم للأشرطة التي يبثها أهل غزة، ويبثها الإعلام الحر كذلك، للإبادة الجماعية في غزة، وتشريد العوائل في العراء، وتجويعهم حتى الموت بقطع إمدادات الغذاء، وقصف خيامهم. فقد أعلن الكثير منهم علانية عن تبرّئهم من الفكر الصهيوني، وعن الخداع الذي تعرّضوا له لإقناعهم بحق اليهود في إقامة دولتهم على أشلاء الفلسطينيين.

العالم برمته قد بدأ بطرح الأسئلة حول جدوى قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم وتشريدهم، بل والتفاخر بهذه الأفعال أمام العالم برمته، وأمام وسائل الإعلام من أجل الاستيلاء على أرضهم بالقوة، واستجلاب أقوام من دول أخرى لإنشاء مستوطنات على أرضهم التي طردوا منها. فعندما نستعرض تعليقات الجمهور وملاحظاته على هذه الأشرطة التي جعلت العالم برمته يرى الجريمة بأم عينه، تُصوّر تفاصيلها أمامه، على الهواء مباشرة، والتي جعلته يشعر بطعم الامتعاض، ومشاعر السخط والغيظ من هذا الفكر المعتل، الذي لا يمتّ للإنسانية أو الأخلاق أو الدين بصلة، ندرك أنّ إسرائيل قد خسرت، ولأول مرة في تاريخها، حربها الإعلامية، وفشلت في غسيل الأدمغة الذي كانت تمارسه ليلاً ونهاراً، لعقود كاملة، وفشلت في تقنيات التلاعب النفسي، وقلب الحقائق التي تميّزت بها. نحن نعيش اليوم في عصر لم يعد من الممكن فيه إخفاء الحقائق وتزييفها وإنكارها. فالحقيقة التي كُشفت اليوم تتفوق على أعتى الأسلحة فتكاً وبطشاً. ما نشهده اليوم هو حرب من نوع آخر، حرب الصورة التي تصرخ بأعلى صوتها.