بعد ما يقارب النصف عام على السقوط الدراماتيكي لنظام الأسد الدكتاتوري، وبعد أكثر من عقد ونيف على عقوبات دولية قاسية فُرضت على سوريا، جاء قرار الولايات المتحدة الأميركية من قبل رئيسها دونالد ترامب وبمبادرة من ولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان، ليفتح أبوابًا جديدة للانتعاش السياسي والاقتصادي في بلد أنهكته عقود من دكتاتورية عائلة الأسد، وحروب دخلتها الدولة مع تنظيمات إرهابية ساهمت في مزيد من التأخر والتشتت المجتمعي وانهيار كامل للمنظومة الاقتصادية والمجتمعية، وصولًا إلى السقوط الكامل لدولة، لطالما تباهى حكامها بقوة زائفة تحت مسمى فرض القانون والسيطرة و(هيبة الدولة)، والتي سقطت بطريقة بيّنت مدى ضعف وهشاشة دولة عاشت على جثث أبناء شعبها.

وفي فترة زمنية مقاربة ومشابهة بعض الشيء للوضع العراقي بعد إسقاط النظام السابق في نيسان (أبريل) 2002، وقرار مجلس الأمن الدولي برفع الحصار عن العراق في أيار (مايو) 2003، جاء قرار الرئيس الأميركي، بذات الخطوة، تجاه سوريا، ليبدأ هذا البلد مرحلة جديدة، لن تكون بهذه السهولة، لكنها على الأقل سترفع الكثير من الأعباء عن كاهل المواطن السوري.

وبالرغم من أنَّ الدولة السورية لم تستقر حتى الآن، وما زالت تُدار بشكل مؤقت وبدون دستور وحياة تشريعية وحكومة مستقرة، ونمط غير معروف من الحكم، ومستقبل مبهم، إلا أن عامل ضرورة استغلال الموارد الاقتصادية، ووجود العقلية السياسية والاقتصادية الصحيحة المستندة إلى البراغماتية ومواكبة المتطلبات الآنية للاستقرار، شكل دافعًا قويًا لمنح هذه الدولة فرصة للبناء وإعادة الإعمار وإطلاق فرص الاستثمارات وفتح أوسع الآفاق للتواصل بين سوريا والعالم لتبادل الخبرات، وفي هذه المعادلة، لا يمكن تناسي الدور والفاعلية السياسية والاقتصادية للمملكة العربية السعودية في اتخاذ هذا القرار.

وبمراجعة سريعة للتاريخ، يتضح أنَّ السعودية لعبت دومًا دورًا فعالًا في حث المجتمع الدولي، وعن طريق مبادراتها لحل المشاكل السياسية والاقتصادية لبلدان الشرق الأوسط والدول الإسلامية، بدليل المبادرة التي قدمها الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في ثمانينيات القرن الماضي وتحديدًا في عام 1981، وفي قمة فاس بالمملكة المغربية لحل القضية الفلسطينية عندما كان وليًا للعهد، والمؤتمر الإسلامي الذي عُقد في الحرم المكي، برعاية وإشراف الملك خالد رحمه الله، والمبادرات التي قدمتها المملكة لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية عن طريق وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل، هذا بالإضافة إلى اتفاق الطائف لحل الأزمة الداخلية في لبنان، والسعي من أجل تخفيف العقوبات الاقتصادية على العراق في تسعينيات القرن الماضي، وإعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية قبل إسقاط نظام الأسد.

وتأتي مبادرة ولي العهد محمد بن سلمان، لتبيّن أهمية الموقع السياسي والدور الفعال الذي تلعبه الرياض، لحل الأزمات والمشاكل في المنطقة، ومن الطبيعي أن يسأل المرء: أو هل أن هذه المبادرة كانت دون أي مقابل؟ أو أن واشنطن قبلت بالمقترح السعودي بهذه السهولة، وخصوصًا بوجود ترامب والذي لا يفكر إلا بمقدار ونسبة الربح المادي والعائد المالي الذي من الممكن أن يُدار على بلده؟ الجواب هو نعم وبكل تأكيد، لكن الحكمة هنا، أن تستخدم هذه الدولة نفوذها الاقتصادي وموقعها الجغرافي وعلاقاتها ومواردها المالية من أجل حل مشكلة وأزمة عميقة لدولة يتجاوز تعدادها عشرين مليون نسمة، ولاستغلال دورها وتأثيرها، من أجل لملمة الشتات الذي أصاب هذه الدولة من جراء السياسات الخاطئة لحكامها منذ تأسيسها، وصولًا إلى الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024.

وتكمن إيجابيات هذا القرار في إعادة فتح الأرصدة المجمدة للدولة السورية، والإسراع في تنفيذ المقررات المتخذة في المؤتمرات التي عُقدت خلال العقد الماضي لإعادة إعمار سوريا، بالإضافة إلى تنفيذ كل البنود المتفق عليها من قبل الدول المانحة، لإعادة اللاجئين، وتعويض الخسائر التي لحقت بهذا البلد.

أما سياسيًا، سيكون المجال مفتوحًا أمام سوريا للعودة إلى المحافل الدولية، لكن هذا الطريق لن يكون مفروشًا لها بالورود، لأنها تعاني من أزمات داخلية عميقة، حيث القضية الكردية ما زالت تشكل هاجسًا لهذه الدولة، من خلال عدم التفهم لمشكلة هذا الشعب وماهيته ومطالبه، وقد جاءت مشكلة الدروز في محافظة السويداء، والاعتداءات التي شهدتها مدن الساحل السوري ضد العلويين لتزيد من الفجوة التي خلقها نظام البعث السابق، من خلال سياسة التفرقة والتمييز العنصري بين المكونات القومية والدينية والمذهبية للدولة السورية، ولتبيّن أن بدايات هذه الحكومة لا تبشر بالخير، بالرغم من وجود بعض التفاؤل من خلال اتفاق مظلوم عبدي وأحمد الشرع، والاتفاق الذي عُقد بين شيوخ عقل الدروز وممثلي الحكومة السورية في محافظة السويداء، أي أن التمثيل السياسي الخارجي مهما كان مرحبًا ومعترفًا به، من الممكن أن يتسبب بالكثير من الإحراج لهذه الدولة التي تريد أن تعيد بناء مكانتها في المجتمع الدولي.

وهنا أيضًا تكمن أهمية الدولة المستقرة، سياسيًا واقتصاديًا، لإعادة الإعمار والبناء، وخصوصًا أن هناك مخاوف كثيرة لأن تتحول سوريا إلى نموذج آخر من العراق، من خلال حصر الاستثمارات والمشاريع في إطار واحد وضيق لمجموعة تتحكم بمقدرات الدولة، ونهب الأموال عن طريق المشاريع الوهمية الصورية، وارتفاع نسب التضخم والبطالة، لذلك بات لزامًا على جميع الأطراف السياسية أن تضع التجربة العراقية صوب أعينها، لضمان عدم تكرار أخطاء التجربة العراقية.

ومع أنَّ هذا القرار اتُخذ شفهيًا من قبل رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ولم يتخذ أعضاء المجتمع الدولي بعد الإجراءات الرسمية لتنفيذه عمليًا، وبانتظار الشروط والإجراءات التي ستُفرض على سوريا وعلى مراحل من أجل التأكد من النية السليمة للدولة ولضمان عدم تكرار أخطاء الماضي، إلا أنَّ الخطوة الأولى والقرار الأول والأهم والمعلن من قبل ترامب، اختصر نصف المسافة، ووضع الجميع أمام الأمر الواقع للبدء حقًا بالإجراءات العملية والقانونية على مستوى مجلس الأمن.

وبالحديث عن خلاصة الموضوع، وبعد العديد من المحاولات والمطالب التي عُرضت على ترامب، من قبل العديد من رؤساء المنطقة والعالم، وتجاهلها أحيانًا، وقبولها فورًا بعد تقديمها من قبل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أصبح هذا القرار عاملًا ونقطة مهمة، رفعت كثيرًا من شعبية ومحبة المملكة العربية السعودية وولي العهد لدى الشارع السوري، والشارع العربي بشكل عام، وشكلت نقطة مفصلية ما بين عهدين وزمنين، ووضعت الجميع أمام أمر واقع، بأن للسعودية دور قوي وفعال لحل الكثير من الأزمات مهما كانت عميقة، شرط أن تلتزم هذه الدولة بما ستتعهد به أمام المجتمع الدولي، وأن تحترم مبادئ حقوق الإنسان في تعاملها مع المكونات القومية والدينية.

ولا أبالغ في القول إن الإعلام الدولي، ومن خلال تركيزه المكثف على زيارة الرئيس الأميركي للرياض وثم لدول الخليج الأخرى وتوقيعه للعديد من الاتفاقيات المهمة والضخمة، سيركز وبالدرجة الأساس على مبادرة الأمير محمد بن سلمان، ليكون فعلاً وبكل استحقاق وجدارة، شخصية هذا العام، بما استطاع أن يقدمه من مغريات اقتصادية، أقنعت الرئيس الأميركي بالقبول بطلبه ومبادرته، بعد ساعات قليلة من تصريحاته والتي قال فيها إنه يفكر في تخفيف العقوبات على سوريا (وليس رفعها)، ليتغير الموقف وليأتي الإعلان الأشهر لهذا العام، وخلال قمة أميركية سعودية، كانت محطًا لأنظار دول المنطقة والعالم، وشكلت المانشيت الأساسي والرئيسي لآلاف من وسائل الإعلام في دول العالم.