لا تقتصر تبعات البيئة العدائية على لحظاتها العابرة، بل تُخَلِّفُ ندوبًا عميقةً في نفسية الطفل، تُرافقه كظلٍّ قاتمٍ عبر مسيرة حياته...؛ فالصغير الذي يُحاصَر بالعنف اللفظي أو الجسدي، أو يُستَهزَأ به داخل جدران المنزل، أو يُنحَّى جانبًا في فضاء المدرسة، أو تُنتَهك حرمة جسده في الشارع...؛ والذي ينشأ في بيئةٍ مشحونةٍ بالسموم النفسية والطاقات السلبية...؛ تُستنزف طفولته وتُحوِّلها إلى سجنٍ من الخوف والقلق والاضطراب...؛ فكل صفعةٍ أو إهانةٍ أو نظرة ازدراءٍ أو لفظة جارحة تُشكِّل لَبِنَةً في جدارٍ عالٍ من الكبت، يَختلط خلفه الحزنُ بالقهر، فيفقد الطفلُ إحساسَه بالأمان والطمأنينة، ويتحوّل عالمه إلى مسرحٍ للترقّب الدائم من مجهولٍ مُخيف.
لا تقتصر الآثار على مرحلة الطفولة وحدها، بل تَمتدُّ كشجرةٍ مسمومةٍ لتُثمر اضطراباتٍ نفسيةً وعقدًا مُزمنةً في مراحل العمر التالية...؛ فما يُزرع في الصغر من خوفٍ من التواصل الاجتماعي يُنبتُ في الكِبَر رهابًا من المواقف اليومية، حتى البسيطة منها.
وتلك العصبيةُ التي تَندلق كالحمم من أعماقه ليست سوى صرخةٍ صامتةٍ لجروح الماضي...؛ تبحث عن متنفَّسٍ لِما كُتِمَ سنواتٍ...؛ فالتوتر الذي يلاحقه لأتفه الأسباب، والقلق الدائم من نظرات الآخرين ومن مسؤوليات الحياة، ما هما إلا صدى لصوتٍ داخليٍّ يَهمس: "أنت ضعيف...؛ أنت مستهدف...؛ أنت غير مرغوبٍ بك".
الأخطر أنَّ هذه الجروح النازفةَ قد تدفع البعضَ إلى تبنّي سلوكياتٍ عدوانيةٍ كدرعٍ واقٍ، أو الانطواء على الذات كملاذٍ آمن، فيَسقطون ضحايا لِما يُسمّى "دورة العنف"؛ حيث يتحوّل المظلومُ إلى ظالمٍ، والطيب إلى خبيث، والمسالم إلى عدواني فيما بعد، أو يَغرق في بحر الاكتئاب والعزلة والوحدة...؛ فالعنفُ – بكل أشكاله – لا يَقتل براءة الطفولة فحسب، بل يسرق من الإنسان مستقبلَه الإنساني، ويُحوِّله إلى كائنٍ مشوَّهِ المشاعر، عاجزٍ عن الثقة حتى بمن يُحاول مدَّ يد العون له.
فكما أن الشجرةَ تحتاج إلى تربةٍ خصبةٍ كي تُزهِر، تحتاج الطفولةُ إلى دفءِ القلوب وحكمةِ التربية كي تنمو...؛ فحماية الأبناء من العواصف النفسية ليست ترفًا، بل مسؤوليةٌ مجتمعيةٌ تُجنّب الأجيالَ ويلاتٍ تُهدّد كيان المواطن قبل كيان الوطن.
ومن خلال ما تقدم تعرف حقيقة مخططات الأعداء وإصرار العملاء على تدمير وتلويث عالم الطفولة والإساءة إليها بشتى الطرق الملتوية، فقتل الطفولة يؤدي إلى قتل روح المواطنة فيما بعد، مما ينعكس سلبًا على الوطن.
التعليقات