لا شك في أنَّ بنية النظام الدولي في طور التغيير، حيث لم يعد من الممكن استمرار الأحادية القطبية كشكل بارز في الساحة الدولية. فمنذ أن انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، لم يعد لمفهوم توازن القوى أي معنى، إلا إن كان يعني ما تحت السلطان الأمريكي من دول تتنافس فيما بينها. ولكن حالة النسق الدولي في تبدل مستمر، كما هو مقدّر لها تاريخيًا، استجابة لطموحات الدول، والحالة الراهنة تعكس ذلك. فالنمو الهائل للاقتصاد الصيني خلال العقدين الأخيرين وتطويرها المستمر لقوتها العسكرية يجعلها مستعدة لتكون بجانب الولايات المتحدة الأميركية في النفوذ العالمي. ومع الفارق الاقتصادي الكبير بين روسيا - أميركا والصين، إلا أن روسيا لا تزال تحتل الترتيب الثاني لأقوى الجيوش في العالم، وأكبر دولة في عدد الأسلحة النووية، ذلك من شأنه أن يضع الاتحاد الروسي إلى جانب الصين وأميركا في التعددية القطبية، الشكل المحتمل كنسق جديد.

وقد أشار العديد من المحللين والعلماء السياسيين إلى أن التعددية القطبية تُعد أشد الأنساق خطورة وأكثرها انجرارًا نحو الحروب. ويذكر أستاذ العلوم السياسية جون ميرشايمر في كتابه "مأساة سياسة القوى العظمى" ثلاثة أسباب لذلك:

كثرة النزاعات الثنائية في النظم متعددة الأقطاب.

عدم التوازن في القوة أكثر شيوعًا في العالم متعدد الأقطاب.

إمكانية الخطأ في الحسابات أكبر في النظم متعددة الأقطاب.

بالرغم من كل ما سبق ذكره، إلا أن الخطر الحقيقي لا يقتصر على طبيعة النسق الدولي أو تفاوت القوة بين الدول، بل يكمن في فوضوية النظام الدولي التي ذكرها جون كفرضية أولى في نظريته، والتي من خلالها تتنافس الدول العظمى فيما بينها على القوة، في ظل عدم وجود كيان أو سلطة عليا دولية تحكم النظام. والواقع أن العالم يشهد حالة من الانفلات السياسي والأمني لم يسبق لها مثيل منذ الحربين الكبريين في القرن العشرين، ومسؤولية القوى الكبرى التي عزمت على عدم تكرار الفوضى الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بإنشائها هيئة الأمم المتحدة بمقصد رئيسي ضمن عدة مقاصد، وهو حفظ السلم والأمن الدولي، في خطر حقيقي. وإن حفظ السلم والأمن الدولي كغاية يصبح بلا قيمة في ظل الفوضى الدولية التي إن لم يكن يشهدها العالم في الوقت الحالي، فهي على المحك.

وتعدد الحروب في السنوات الأخيرة دليل على أن حالة السلم لم تعد كما كانت من قبل، واستوعبت الدول أن خير ما تفعله ليس التقدم الاقتصادي ولا الدبلوماسية الفاعلة فحسب، بل إن تعزيز القوة العسكرية إلى درجة الردع أصبح أمرًا لا مفر منه.

وقد شهدت السنة الحالية عددًا من الحروب القصيرة، كالحرب الهندية–الباكستانية وخطر التصعيد النووي المحتمل كونهما دولتين نوويتين، والحرب الإسرائيلية–الإيرانية القابلة للاستئناف، والحرب الروسية – الأوكرانية المستمرة منذ ثلاث سنوات، والتي تحمل عددًا من التساؤلات حول النوايا الروسية الأساسية من الحرب: هل هي بسبب طموحات إمبريالية، أم ردة فعل طبيعية لاحتمال توسع حلف الناتو شرقًا بانضمام أوكرانيا، أو حتى كلا السببين؟

ولكن في الحقيقة، لا يوجد أوضح وأكثر خرقًا للقانون الدولي من الأفعال الإسرائيلية في الشرق الأوسط، التي لم تعد مهددة للاستقرار الإقليمي فحسب، بل منذرة بانهيار النظام العالمي بأكمله. كيف لا والسلوك الإسرائيلي الذي لم يجد له رادع في انتهاك سيادة العديد من دول المنطقة أصبح أمرًا روتينيًا؟ حتى الحرب الروسية –الأوكرانية بصفتها الحدث الأبرز في الساحة الدولية، تصبح حدثًا هامشيًا مقارنة بنوايا الهيمنة الإسرائيلية المختلقة، وارتكابها لأبشع الممارسات من تجويع وإبادة ممنهجة لشعب فلسطين أمام مرأى المجتمع الدولي بشكل واضح وبطريقة لم يعهدها مثيل العهد النازي. ولا يتعلق الربط بين الحرب الروسية–الأوكرانية وتكتل الناتو بالحالة الإسرائيلية بأي نوع من المقارنة في ميزان القوى، بل بمقدار الفوضى الدولية التي ستنجم عنها في ظل عدم وجود حراك حقيقي لوقفها من الأمم المسؤولة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي يصبح حق النقض لديها في مجلس الأمن أمرًا تلقائيًا فيما يخص إسرائيل.

ختامًا، لا شك أن التنظيم الدولي قد ساهم في منع الحروب الكبرى، ولكن هل لا تزال إرادة الأمم في منع ذلك قائمة؟ فالمنظومة الأممية تعمل بصورة أبدية لمنع فشلها كما حدث لعصبة الأمم، ولكن دوام تلك الحالة مستحيل في ظل ما يشهده العالم في الوقت الحالي من فوضى مرتقبة، وفي ظل تناقض الأمم المسؤولة في قضايا محورية ومفصلية إقليمية، ولكنها ترتبط بالأمن العالمي كقضية فلسطين، حيث يستمر انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل في مجلس الأمن كدولة مسؤولة، يقابلها إجماع رباعي من الدول المسؤولة الأخرى لوقف جنون الحكومة الإسرائيلية.