الانتخابات الرئاسية االلبنانية
تحت مطارق الداخل المتعددة وسندان الخارج الصلب


بلال خبيزمن بيورت :نادراً ما تمر انتخابات رئاسية في لبنان من دون تدخلات كبرى في الوضع اللبناني. ناخبو رئيس الجمهورية اللبنانية كانوا دائماً من خارج الحدود. تارة تكون مصر الناخب الأبرز، وتارة تكون سوريا، وطوراً، بل دائماً، ثمة دور محفوظ للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا في تسمية الرئيس. وفي زمن مضى كانت لبريطانيا كلمتها في تحديد هوية الرئيس اللبناني، يوم كانت بريطانيا قوة عالمية لها امتداداتها العميقة في بلاد الشام وجوارها. الرئيس اللبناني نادراً ما ينتخبه اهل البلد انفسهم، واندر من ذلك ان ينتخبه اهل طائفته التي يمثلها في السلطة اللبنانية. والحق انه بموجب اتفاق الطائف عام 1989 تم تقاسم السلطات الدستورية بين الطوائف اللبنانية بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وثبت العرف الذي يقضي بتولي مسيحي ماروني رئاسة الجمهورية اللبنانية. رغم ان بعض الصلاحيات التي كان دستور لبنان قبل الطائف ينيطها بالرئيس قد تم تقليصها لصالح الرئاستين الثانية والثالثة.

النتيجة ثمة بلد يحكم بثلاثة رؤوس لها رابع. فبالإضافة إلى رئاسة المجلس النيابي المحصورة في الطائفة الشيعية ثمة رئيس الحكومة السني ورئيس الجمهورية الماروني، لكن الحكم في البلد لا يستقيم فقط على هذه الركائز الثلاث، إذ لا يحسن الرؤساء ان يحكموا البلد من دون أخذ دور الزعامة الدرزية في الاعتبار. لكنهم ايضاً لا يستطيعون حكم البلد على مستوى مؤسساته وقواه الانتاجية من دون اخذ مصالح الطوائف المسيحية الأخرى في الاعتبار. ثمة صعيدان تتغذى منهما السياسة اللبنانية. صعيد يتعلق بالسلطات نفسها والمؤسسات الدستورية وهذا في حد ذاته يحتكم قليلاً او كثيراً إلى مصالح حيوية تعبر عنها قوى طائفية اساسية في لبنان، وتبدو الطوائف المسيحية الكبرى في مقدم هذه القوى. من جهة ثانية ثمة قوى اهلية تتحكم في خيارات لبنان الخارجية والداخلية وتوجهاته السياسية، وهذه على الأغلب تفرد حيزاً مهماً لمصالح الطائفة الدرزية باعتبارها ثالثة الطوائف الإسلامية في لبنان. والحال ليس من المستغرب في اي حال من الاحوال ان يبدي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط رأيه في الرئيس المقبل، وقد كان والده كمال جنبلاط ذات يوم صانع رؤساء في لبنان. مثلما لا يبدو مستغرباً ان يطلق قادة الطائفة الشيعية اراء ومواقف تتعلق بصفات رئيس الجمهورية المقبل والوضع ينسحب بالدرجة نفسها على الطائفة السنية وقادتها في لبنان. الخلاصة ان ثمة ناخبين كثر محليين ودوليين يتحكمون في تحديد شخصية الرئيس اللبناني وتوجهاته. وهؤلاء الناخبون يؤثرون من دون شك على طبيعة السياسة التي يتبعها والحدود التي يمكنه التحرك ضمنها من دون ان يؤدي استفراده بالقرار إلى ما لا تحمد عقباه في لبنان.

في الأيام الأخيرة تزايد الحديث عن ضرورة إقالة الرئيس الحالي إميل لحود. لكن هذا التزايد واجهه الرئيس لحود بإصراره على إكمال ولايته، مستفيداً من الإشكالات الدستورية التي تحف بعملية إقالة الرئيس. لكن هذا الإصرار لا يعني ان الملف اقفل، وان الرئيس سينهي ولايته الممددة حتى آخر يوم فيها كما يصرح دائماً. فالحديث تجدد من جهات متعددة. وكلها تستطيع ان تجعل من أمر اقالة الرئيس هماً داهماً على اللبنانيين. والأرجح ان مرد ارتباك المعركة في مواجهى الرئيس لحود تعود في أصلها إلى صعوبة الاتفاق بين القوى اللبنانية والخارجية المؤثرة على الوضع اللبناني على ملامح العهد المقبل، مثلما يتعلق باستعدادات القوى الناخبة وطبيعة تموضعها وتحالفاتها في المعركة، خصوصاً ان عاصفة التحقيق الدولي لم تستكمل بعد كل رياحها، وما زال في بوقها زمهرير ورياح ستغرق البلد بمضاعفاتها.
الثابت في لبنان اليوم ان الرئيس إميل لحود المطعون في شرعية التمديد له، او المثير للجدل على حد تعبير رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، لم يعد يملك من أوراق القوة التي تتيح له البقاء في سدة الرئاسة إلا صعوبة المعركة الرئاسية المقبلة، وتهيّب اللبنانيين من خوضها كيفما اتفق. خصوصاً ان خوضها كيفما اتفق قد يعرض البلد إلى هزات كبرى قد تجعل الاتفاق على تسيير امور الحكم فيه مستحيلاً وتجعل من نصابه السياسي فاقداً لكل شرعية شعبية، ومن رؤسائه مجرد موظفين درجة ثانية ينوبون عن زعماء خارج الحكم يحلون ويربطون في الشارع كيفما يشاؤون ولا يعود ثمة دور للمؤسسات الرسمية يمكن ان يتجاوز حد تجميل الانقسام الحاد بين اللبنانيين، عبر تجميد كل تقدم، والعزوف عن اتخاذ أي قرار لئلا يؤثر ذلك على السلم الاهلي الذي يبدو اليوم هشاً اكثر من أي وقت مضى.
لم يعد الرئيس لحود يملك من الأوراق التي تخوله البقاء في سدة الرئاسة إلا عجز اللبنانيين البيّن عن الاتفاق على الحد الأدنى المطلوب لتسيير شؤون الدولة. والحق ان الخلاف المستشري بين أهل الحكم والقوة في لبنان حول الملفات الأساسية الشائكة التي دارت حولها المناقشات في مؤتمر الحوار اللبناني يوضح إلى أي حد ستكون معركة الرئاسة قاسية على لبنان واللبنانيين ما لم ينجحوا في ربع الساعة الأخير في ان يتفقوا على تجنيب البلد انهياراً متمادياً قد يضرب البقية الباقية من تماسكه الشكلي.

في وضع هذا وصفه على المستوى القوى الناخبة داخلياً، يصبح للخارج اليد الطولى في تقرير الرئيس الجديد. والحق ان الناخب الخارجي كان المقرر الأول والأخير في انتخابات الرؤساء الخمسة الذين تعاقبوا على سدة الرئاسة الأولى في لبنان، منذ بشير الجميل الذي اغتيل قبل تسلمه مهام حكمه، مروراً بأخيه امين الذي انتخب في ظل الحراب الاسرائيلية عام 1982 وفي ظل عجز عربي عام، وصولاً إلى الرئيس رينيه معوض الذي كان اول رئيس جمهورية بعد الطائف والذي اغتيل بعد اسابيع قليلة من تسلم مهامه الدستورية، فاجتمع المجلس النيابي على الأثر وانتخب الرئيس الياس الهراوي الذي تربع على سدة الرئاسة تسع سنوات كاملة بعد ان قرر الرئيس السوري حافظ الأسد التمديد له ثلاث سنوات اضافية بموافقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولاً إلى الرئيس الحالي ايضاً الذي تم التمديد له سورياً وعلى نحو فاقع ادى إلى ما ادى إليه من تداعيات خطيرة في البلد وجواره.

الناخبون اللبنانيون الأقوياء لا يتفقون اليوم على أي توجه عام حيال البلد. فثمة القوة الشيعية الأبرز التي تريد للبلد سياسة خارجية وداخلية تختلف اختلافاً بيّناً عن توجهات القوة السنية الأبرز المتحالفة ضمناً مع الزعامة الدرزية، وعلى النحو ذاته ليس ثمة ما يجمع الموارنة اللبنانيين على مستوى القوى التي تتحكم في الشارع الماروني مع الشيعة او السنة في التوجهات العامة. هذا الوضع الممزق يؤدي إلى تعميق الخلاف الداخلي حول هوية الرئيس المقبل وتوجهاته وشخصيته، ويجعل من أمر انتخابه معضلة كبرى، على اللبنانيين ان يعملوا سريعاً للاتفاق عليها من قبل أن تدهمهم الاستحقاقات، او تأخذهم العواصف الاقليمية إلى البحر من دون زوارق او مجاذيف.

في هذه الحمأة الكبرى، ربما يجدر بنا فعلياً ان نراقب عن كثب حظوظ الشخصيات الأبرز المرشحة للرئاسة الاولى في لبنان. وفي هذا الصدد، يبدو من المفيد ان نعيد استقراء الإمكانات الشخصية لكل مرشح على حدة، والاحتمالات التي تنتج من انتخابه دون غيره على مستوى مستقبل البلد برمته، وما يمكن ان يقدم او يؤخر انتخابه دون غيره من الشخصيات.
لبنان اليوم يعيش مفارقة من مفارقاته المزمنة. ثمة اختلاف عميق حول دور لبنان وهويته وأدوار قواه السياسية والاجتماعية بين اللبنانيين، مما يجعل الناخبين الداخليين لا يجدون نقطة مشتركة واحدة في ما بينهم، اللهم إلا تجنب الحرب المسلحة على ما نرجو ونأمل، وثمة ناخبون خارجيون يكادون يتفقون على كل شيء، أقله حتى الآن. لكن الاحتكام تحت سقف الناخب الدولي لا تبدو متيسرة اليوم في لبنان. خصوصاً ان هذا السقف الذي تمثله القرارات الدولية في شأن لبنان قد يغلب فئات على أخرى في نتائجه وتبعاته.
المعادلة صعبة. واللبنانيون أمام رهانات حاسمة، يؤجلون استحقاقاتها ما أمكن. وفي هذا التأجيل ما يتيح للرئيس الحالي البقاء في منصبه الدستوري، وإن كان منصبه السياسي قد فقد معظم مقوماته حتى الآن.