يحيى حمود

ليس تسرعاً القول أن رئيس الجمهورية أسهم الى حد كبير في إيصال الأمور الى ما وصلت اليه من خطر وتعقيد. ولكن الوجه البسيط أو المبسط للموضوع يكمن في الاجابة عن السؤال البديهي الأول، هل نريد وطناً؟ اذا كان الجواب بالايجاب يسقط حينئذ الجانب الشخصي وتصبح المعالجة مسألة موضوعية يسهل معها الوصول الى حل. وتصبح الاشكالية على الشكل التالي: هل هناك من أسباب جوهرية موجبة لاستقالة لحود؟
أولاً: في جوهر القانون
العلاقة بين الشكل والمضمون في القانون كانت وستظل علاقة شائكة. وغالباً ما تختبئ الأنظمة الشمولية، التي تفتقد الى الليونة الديموقراطية اللازمة في معالجة الأزمات، أو على الأقل العقل السياسي الشمولي وراء الشكلانية كتبرير قانوني للتشبث بالسلطة. وبالتالي فإن السؤال المشروع يضحى: أين نحن اليوم من مبدأ العقد الاجتماعي الذي كان وما زال وراء نشوء وتطور الديموقراطيات في العالم.. حيث إنه ومن البديهي استناداً الى هذه النظرية الى أن الحكم يقوم على أساس تفويض من الشعب لهذه السلطة لتقوم بكل ما هو ضروري ولازم للحفاظ على وحدته ومصالحه وأمنه. على أنه وفي كل الأحوال يعود للشعب الذي منح التفويض أن يعود ويسحبه حين تفشل السلطة في تحقيق الأهداف المتفق عليها في العقد.
في هذا الاطار، فإنه من المفيد جداً أن نستعرض بعض الوقائع التي تعرض لها الوطن في أقل من عام لمعرفة ما إذا كان هناك إخلال ببنود هذا العقد:
ـ جريمة العصر التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ورفاقهما الأبرار مع ما يمثله الرئيس الشهيد من قيم وطنية وقومية عالية.
ـ لجنة تحقيق دولية وأركان الدولة الأمنية في السجن على أساس الاشتراك بجريمة اغتيال الرئيس الحريري.
ـ الشهداء الأحياء من مروان حمادة الى مي شدياق.
ـ الشهداء الأبرار قادة الفكر والحرية سمير قصير، جورج حاوي وجبران تويني. هذا إذا توقف مسلسل الاجرام عند هذا الحد.
ـ المواطنون الشهداء الكثر الذين سقطوا نتيجة أعمال العنف.
ـ موجات التفجيرات التي طالت المواطنين الآمنين في حياتهم وأمنهم ومالهم.
ـ ثلاث تظاهرات مليونية في أقل من عام احتجاجاً ورفضاً للصمت والسكوت والاذعان لسلطتي الأمن والوصاية.
الجردة العامة بالغة الخطورة في وطن بحجم لبنان. وبدلاً من موقف مسؤول من قبل الرئيس لحود انسجاماً مع مبدأ المسؤولية، أتى رد الرئيس لحود بشكلانية مطلقة (المادة 79 من الدستور التي تتطلب أكثرية الثلثين اللازمة لتعديل الدستور وبالتالي تقصير الولاية) متعارضة كلياً مع الوقائع الآنفة الذكر ومع منطوق الدستور في المادة 49 التي اعتبرت ان quot;رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور...quot;.
ثانياً ـ في التمديد لولاية الرئيس
عدة نقاط يمكن إثارتها في هذا المجال:
1 ـ التمديد انشأ ولاية ممددة قسراً بواسطة النظام الأمني وسلطة الوصاية السورية، وهو أمر اعترف به عدد كبير من المسؤولين والبرلمانيين وفي مقدمهم فريق الرابع عشر من آذار. حتى العماد عون اعترف بالتمديد القسري وإن كان قد ربطه بقانون انتخاب قسري وهو موضوع نقاش آخر (راجع النهار تاريخ 16 شباط). في مطلق الأحوال نصبح أمام معادلة جديدة، فالتمديد بالنسبة لفريق الرابع عشر من آذار هو تمديد قسري، وكذلك هو الأمر بالنسبة للعماد عون (إلا إذا كان للعماد عون تفسير آخر مع الاشارة الى أن التمديد القسري قد حصل قبل الانتخابات النيابية). وبالتالي فإن أكثرية الثلثين في المجلس أصبحت تعتبر أن التمديد قسرياً مما يسقط منطق الشكل ويفتح في المجال أمام مزيد من البحث في تداعيات التمديد.
2 ـ حقيقة التمديد القسري لولاية الرئيس لحود من قبل سلطة الوصاية هي أمر معروف لديه كلياً. بدليل موافقة الرئيس على التمديد وبدليل كل ما نشر وقيل من قبل الغالبية النيابية. وهنا تبرز مسألة بغاية الخطورة حيث إن مجرد التدخل لتعديل الدستور من خلال الضغط على إرادة النواب عن طريق سلطة أمنية لبنانية أو غير لبنانية وتحديداً سورية يمكن أن يفسر على أنه خرق للدستور سنداً للمادة 49 التي توجب على الرئيس احترام الدستور وأيضاً حنث باليمين سنداً للمادة 50 التي تنص على قسم رئيس الجمهورية quot;أحلف بالله العظيم أن أحترم دستور الأمة اللبنانية...quot;.
3 ـ استطراداً، وعطفاً على التمديد القسري لولاية الرئيس، فإن المبادئ القانونية العامة الوضعية منها والدينية تعتبر أن كل عقد مشوب بعيب من عيوب الرضى هو عقد باطل. والاكراه هو عيب من هذه العيوب وبالتالي فإن العقد القائم بين الشعب ورئيس الجمهورية سنداً لنظرية العقد الاجتماعي هو عقد مشوب بعيب الاكراه وهو عقد باطل وتالياً فإن التمديد باطل بطلاناً مطلقاً.
استنتاج ثان التمديد باطل والولاية الممددة غير شرعية وبقاء الرئيس في سدة الرئاسة غير دستوري.
ثالثاً: في خلو سدة الرئاسة
نصت المادة 74 من الدستور على ما يلي quot;إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس أو استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون...quot;.
إذا كان لا خلاف أبداً على السببين الأولين في خلو سدة الرئاسة فإن المسألة تصبح أكثر صعوبة حول السبب الثالث quot;سبب آخرquot;. الدستور لا يفسر المقصود quot;بالسبب الآخرquot; لكن الفقه ذهب مذهباً في تفسير السبب الثالث حيث اعتبر أن العجز أو المرض الذي يمنع الرئيس من القيام بمهماته أو اتهام الرئيس لسببي خرق الدستور أو الخيانة العظمى يندرجان تحت هذا العنوان. التفسير في هذا الاطار هو تفسير شخصي بحت مرتبط بشخص الرئيس. لكن الصورة تختلف كلياً إذا ذهبنا موضوعياً في تحليل هذا السبب. والسؤال الذي يطرح هل قصد الدستور حماية شخص الرئيس أم قصد حماية دوره وصلاحيته؟
إن التفسير الذي يستقيم مع أهمية الدستور يفرض منطقياً أن تكون الحماية مؤمنة للدور والصلاحية وليس للشخص بدليل أن الرئيس يحاكم كأي مواطن في حال التلبس بالجرم المشهود. إذن من المنطقي جداً أن تكون نية المشترع متجهة لحماية الرئيس بهدف تأمين أفضل الظروف للقيام بعمله ومهامه.
في هذا الاطار يصبح من الضروري أن نشير الى دور الرئاسة في ظل هذه الأوضاع كي نؤكد أو ننفي وجود أي دور للرئيس لحود.
ـ المرحلة الراهنة تستوجب الحوار بين كافة أبناء الوطن بعد المرحلة العاصفة خلال السنة الفائتة وهو دور الحكم الملقى على عاتق الرئيس، الأمر الذي لم يحدث. النواب والفاعليات السياسية تدعو الى الحوار، رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري دعا الى الحوار في مجلس النواب في وقت أن الرئاسة الأولى تسجل غياباً كاملاً.
ـ الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية التي يتخبط فيها الوطن هما موضوع متابعة يومية من قبل الحكومة ورئيس الحكومة. بالاضافة الى ملف العلاقات الدولية ومتابعة الملف اللبناني في كافة المحافل العربية والدولية في ظل غياب شبه كامل للرئاسة وللدور الذي يجب أن تقوم به.
ـ الاعتكاف الوزاري وحالة الشلل التي حدثت بالبلاد على مدى شهرين تقريباً لم يلقيا أي اهتمام من قبل الرئيس. الأفرقاء اختلفوا والافرقاء اتفقوا.
ـ الشكاوى المستمرة من قبل الأكثرية البرلمانية ومن قبل الحكومة والتي تتلخص بعرقلة العمل الحكومي وعرقلة التعيينات...
هذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر، تشير بوضوح الى غياب شبه كامل لدور الرئيس. الأمر الذي يطرح على بساط البحث المادة 74 من الدستور توصلاً إلى اعتماد مفهوم الدور والصلاحية، وبالتالي عند غياب هذا الدور يمكن الاعتبار أن السدة الرئاسية خالية من الناحية الموضوعية.
رابعاً: في الدور الوظيفي المحلي والدولي.
هذه المسألة تشكل بالتأكيد خللاً كبيراً يعاني منه اللبنانيون:
على الصعيد الداخلي:
شريحة كبيرة من اللبنانيين المعنية بطائفة الرئيس (كنا نفضل ألا نصل الى هذا المنطق الطائفي) ترى أنها مهمشة أو أن دورها في بناء لبنان الاستقلال والوحدة يتراجع بتراجع دور الرئاسة الأولى. ومن الطبيعي جداً أن تظهر هذه المخاوف جلية وواضحة خصوصاً بعد ما تأكدت أدوار الرئاستين الثانية والثالثة.
على الصعيد الدولي
لا شك أن قرار التمديد للرئيس لحود ترافق مع حملة دولية داعية الى عدم التدخل في الشؤون اللبنانية. وليس مصادفة أن يصدر القرار 1559 قبل يوم من صدور التعديل الدستوري وتمديد ولاية الرئيس لحود. هذا السباق الذي أكد فيه القرار 1559 في ديباجته على أهمية الانتخابات الرئاسية المقبلة وطلب في بنده الخامس أن تكون quot;الانتخابات الرئاسية المقبلة حرة ونزيهة من كل تدخل أو تأثير أجنبيquot;.
المحصلة العامة تعود الى الاستنتاجات التالية:
1 ـ التناقض الواضح بين روح الدستور والآليات الشكلية التي يحرص عليها بعض السياسيين لمنع التغيير اللازم.
2 ـ التمديد لولاية الرئيس باطل وبقاء الرئيس في سدة الرئاسة غير دستوري.
3 ـ سدة الرئاسة خالية موضوعياً، الأمر الذي يوجب اجتماع المجلس فوراء وبحكم القانون لأجل انتخاب خلف للرئيس لحود.
4 ـ حفاظاً على الوضع الداخلي وحفاظاً على دور لبنان العربي والدولي فإن الواقع يستوجب أن يتخذ الرئيس لحود العبرة ويتصرف وفقاً للمنطلقات الوطنية وانسجاماً مع روح الدستور.
5 ـ في هذا الاطار، ليست المسألة مسألة تحد أو تفريط في موقع الرئاسة الأولى. والمسؤولية اليوم تقتضي من كل المواطنين مسؤولين وبرلمانيين التوافق والانتصار لروح الدستور وانقاذاً للوطن الذي ينتظر الخلاص أو الانفجار إذا غلب الشخص والمصلحة الشخصية على الوطن ومصلحة الوطن. الشعب والتاريخ والقانون لن يرحموا أبداً في هذه المسألة.


(*) أستاذ في الجامعة اللبنانية