إذا كان تحديد المصطلحات هو الخطوة الأولى على الطريق إلى (العِلْم) فيمكن أن نقول إن تاريخ العلم قد بدأ منذ مطلع التاريخ البشري، حين تعلَّم نبي الله آدم أبو البشرية عليه السلام الأسماء كلها عن ربه، كما جاء في قصة الخلق الأول: ((وإِذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، قالوا أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدكَ وَنُقَدِّسُ لكَ، قالَ إنِّي أعلمُ ما لا تَعْلَمونَ 0 وَعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها ثمَّ عرضَهُم على الملائكةِ فقالَ أَنْبئوني بأسماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُم صادقينَ 0 قَالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لنا إلا مَا عَلَّمْتَنا، إِنَّكَ أنتَ العَليمُ الحَكيمُ 0 قالَ يا آدمُ أَنْبِئْهُم بأسمائهم، فَلَّمَا أَنْبَأَهُم بأَسْمائهم قالَ أَلَم أقُلْ لَكُم إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ والأرضِ وأعْلَمُ ما تُبْدونَ وما كُنْتُم تَكْتُمونَ)) سورة البقرة 30 ـ 33.
ونلاحظ في هذه الآيات الكريمات ـ وفي كثير غيرها من الآيات ـ أن ذكر العلم قد تكرر مرات عديدة، ما يدل دلالة واضحة على أهمية العلم في حياة الإنسان منذ اللحظات الأولى لوجوده في هذا العالم..ولكن.. ما هو العلم؟ سؤال تبدو الإجابة عليه سهلة للوهلة الأولى، فالعلم بمعناه العام هو (المعرفة)، فكل معرفة هي نوع من العلم، إلا أن العلم بمعناه التقني والعملي يحتاج إلى المزيد من التحديد، فاستقراء تاريخ العلم يشير إلى أن العلم ليس هو كل معرفة بل هو بتحديد أكثر دقة (المعرفة الصحيحة بسنن الله في خلقه)، أي المعرفة بالقوانين التي قدَّرها الخالق عزَّ وجلَّ لتنظم حركة كل شيء في هذا الوجود، ومن ثم فإن البحث الجاد لاكتشاف هذه السنن ومعرفة كيفية عملها وشروطها هو الذي يستحق وصف (العلم) بمعناه التقني والعملي، لأننا بمعرفة سنن الله في خلقه ومعرفة شروط عملها نستطيع تسخير الظواهر الكونية المختلفة، ونتمكن من تحقيق الغاية العملية من العلم.
وانطلاقاً من هذا التعريف للعلم يمكن أن نحل الإشكال الذي كثيراً ما يقع فيه بعضهم حين يصف العلم بأنه (نسبيٌّ)، أو أنه خليط من الحقيقة والوهم والظن والخيال، فالعلم وفق التعريف الذي اخترناه هو المعرفة اليقينية بالسنن التي تحكم ظواهر هذا الوجود، فإذا لم نتوصل إلى هذه الدرجة من المعرفة فإننا لا نكون قد توصلنا إلى العلم الصحيح بالظاهرة الكونية موضوع البحث، ومن ثم فإن وصف بعض الاكتشافات بأنها (علمية) قبل الوصول إلى هذه الدرجة من المعرفة يعدُّ خطأ فادحاً بحق العلم.
ونضرب على هذا مثلاً بتركيب جزيء الماء الذي يرمز له كيميائياً بالرمز (H2O)، فقد عرفنا من خلال البحث والتجارب والمشاهدات الدقيقة أن جزيء الماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، فهذه المعرفة أصبحت حقيقة (علمية) لا يخالطها أدنى شك، بدليل أننا نستطيع الحصول على الماء مراراً وتكراراً من خلال تفاعل عنصري الأكسجين والهيدروجين بالمقادير التي ذكرناها، أما معرفتنا بالتركيب الدقيق التفصيلي لكل من ذرة الهيدروجين وذرة الأكسجين فمازالت معرفة نسبية لم تصل إلى حد اليقين بعد، ومن ثم فلا يصح أن نطلق على هذه المعرفة أنها (علمية).
وهذا التعريف للعلم على أساس معرفة السنن أو القوانين لم يتبلور في الذهن البشري وفي الممارسات العملية إلا منذ فترة قريبة، فقد كان مفهوم العلم في الماضي مختلطاً ببعض المفاهيم والممارسات التي لا تمتُّ إلى العلم بأية صلة، كالفلسفة والتنجيم والسحر والأساطير والشعوذة، ولعل مفهوم العلم لم يتبلور بصورة قاطعة إلا في القرون الميلادية الثلاثة الأخيرة (18، 19، 20) التي صار فيها للعلم ملامح واضحة، وصار فيها للبحث العلمي قواعد ومناهج وطرق محددة متفق عليها من قبل أهل العلم.
وقد مر التفكير العلمي بمراحل مهمة، ربما بدأت على أيدي البابليين الذين طوروا رياضيات معقدة، وأصبحوا بحلول عام 1600ق.م معنيين بالتفكير العقلاني الذي مهد الأرضية اللازمة لتحديد مفهوم العلم وتطور العلوم فيما بعد، كما أن مساهمات الفلاسفة الإغريق واهتمامهم بشرح فلسفة الطبيعة وطبيعة الفلسفة كان له أثر كبير في مستقبل الأحداث العلمية، إلا أن الأمر استغرق عدة قرون قبل الفصل ما بين التفكير الفلسفي المحض وبين التفكير العلمي، ومن المعروف أن علماء أوروبا لم يبدؤوا التفكير بأعمالهم كأشياء منفصلة عن الفلسفة إلا في أوائل القرن التاسع عشر(1) .. ويوماً بعد يوم، مع وضوح المفاهيم العلمية، وتقدم البشرية في مضمار العلم، كانت هناك ظاهرتان مصاحبتان تحصلان في وقت واحد:
bull;الظاهرة الأولى أن البشرية كانت كلما قطعت شوطاً في مضمار العلم كلما تقلصت المساحة المتاحة للأسطورة والتنجيم والسحر وبقية الممارسات التي كان لها فيما مضى مكانة رفيعة لا تقل عن مكانة العلم والعلماء في أيامنا الحاضرة، ومع مرور الوقت ونتيجة لمصداقية المفاهيم العلمية بدأ الناس يفقدون ثقتهم بتلك الممارسات حتى كادت تختفي تماماً ولم يعد لها وجود إلا في الزوايا المظلمة من هذا العالم.
bull;وأما الظاهرة الثانية فهي أن العلماء كانوا ومازالوا كلما اكتشفوا حقيقة علمية جديدة اكتشفوا مقابلها عدداً أكبر من المجاهيل التي لم يكونوا يعلمون عنها شيئاً، ومن أمثلة ذلك أن العلماء كانوا في أوائل القرن العشرين يعتقدون أن (الذرة) تتركب من ثلاثة جسيمات أساسية هي الإلكترونات والبروتونات والنترونات، فلما تطورت أجهزة الرصد العلمي الدقيقة، ولاسيما منها مُعَجِّلات الجسيمات الذرية (Particle accelerator Stationary state) فائقة القدرة تبين أن الذرة تضم أكثر من مائة نوع من الجسيمات الدقيقة، وليس ثلاثة أنواع فقط، وبهذا اكتشف العلماء أن ما يجهلونه هو أكثر بكثير مما يعلمونه، وقد وصف بعضهم هذه الحالة وصفاً لا يخلو من النقد والطرافة فقال: لقد توصل العلماء أخيراً إلى جهلهم! ووصف الله عزَّ وجلَّ هذه الحالة بقوله تعالى: ((وَمَا أُوتيتُمْ من العِلْمِ إلا قَليلاً)) سورة الإسراء 85، وسوف يبقى هذا الوصف الإلهي صحيحاً وملازماً للعلم البشري حتى آخر الزمان، فمهما اكتشف الناس من أسرار هذا الوجود، ومهما حصلوا من العلم، فإن علمهم سيبقى قاصراً ضئيلاً محدوداً أمام عظمة هذا الوجود الذي لا يحيط بدقائقه وتفاصيله إحاطة علمية كاملة إلا خالقه ومبدعه ومصوره.. سبحانه.
ومن الطريف أن نورد هنا قصة نبي الله موسى عليه السلام مع العبد الصالح عليه السلام التي حكاها القرآن الكريم في سورة الكهف، إذ تروي كتب التفسير أنهما بعد أن انتهيا من تلك الرحلة الشيقة، وبعد أن كشف العبد الصالح لموسى عن جوانب عديدة من علم الله تعالى، وجلسا على شاطئ البحر يستريحان، شاهدا طائراً يهوي إلى الماء فينقر بمنقاره بضع قطرات ثم يعاود طيرانه، وعندها التف العبد الصالح إلى موسى وسأله: ترى ما الذي نقص هذا الطائر من هذا اليَمِّ؟ فرد موسى عليه: لا شيء. فقال العبد الصالح: إن علمي وعلمك وعلم الأولين والآخرين أمام علم الله عزَّ وجلَّ لا يزيد عما نقره هذا الطائر من هذا اليمِّ!
تطور العلم:
يقوم العلم في جوهره على منهج متكامل من القواعد، فهو يبدأ برصد الظاهرة التي نود دراستها، ثم وضع (الملاحظات) الأولية عنها، يلي ذلك وضع (الفرضيات) التي نحاول من خلالها فهم الظاهرة أو تعليل أسبابها وتحديد العوامل التي تتعلق بها، معتمدين في هذا كله على خبراتنا ومعلوماتنا السابقة، ثم ننتقل إلى عمليات الرصد الدقيق والقياس والتجارب العملية لاختبار صحة فرضياتنا، وبعد ذلك نبدأ بتحليل النتائج وتفنيد الفرضيات لننتهي من ذلك إلى صياغة (النظرية) التي نحدد بها طبيعة الظاهرة تحديداً دقيقاً، ونضع لهذه النظرية المعادلات والقوانين التي نستطيع من خلالها تسخير الظاهرة والاستفادة منها في التطبيقات العملية.
وقد كان للمسلمين في عصرهم العلمي الزاهر الفضل الأول بوضع هذا (المنهج التجريبي) الذي شكَّل نقلة متميزة في تاريخ العلم(2)، إذ نقله من طور الظن والتخمين والفرضيات والوهم إلى طور الرصد الدقيق، والتجريب العملي الذي يمكن من خلاله اكتشاف قوانين الطبيعة وفهمها فهماً دقيقاً، وقد دفع هذا المنهج التجريبي عجلة العلم دفعة قوية إلى الأمام، وأسفر في سنوات معدودات عن عدد هائل من الاكتشافات التي يفخر بها تاريخ العلم عند المسلمين.
ويلاحظ أن تطور العلم عبر التاريخ لم يكن تطوراً منتظماً في الزمان والمكان، فقد تخلله فترات من التقدم السريع مع فترات أخرى من الركود، وأحياناً الانحلال، وعلى مر الزمان كانت مراكز النشاط العلمي تتنقل من مكان إلى مكان مقتفية في هجرتها بؤر النشاط التجاري والصناعي، فكانت بابل ومصر والهند بؤرة للعلم القديم، ثم صارت اليونان هي الوريث المشترك لها جميعاً، وفي اليونان وضعت للمرة الأولى القاعدة العقلانية للعلم كما نعرفها اليوم.. ولم يكن هناك مكان للعلم في روما ولا لدى الممالك البربرية في أوروبا الغربية، أما إرث اليونان فقد عاد إلى الشرق من حيث أتى، ففي سوريا وفارس والهند، وحتى في بلاد الصين النائية، اهتزت خفقات جديدة بالعلم، وتجمعت في نسيج عبقري تحت راية الإسلام، ومن هذا المصدر دخلت العلوم والتكنولوجيا إلى أوروبا الوسطى حيث طرأ عليها تطور، وإن كان بطيئاً في أول الأمر، إلا أنه أدى إلى الطفرة العظيمة للنشاط الخلاق الذي تمخضت عنه الثورة الحالية في العلم الحديث(3).
وقد كانت روما القديمة هي مركز المرحلة الأولى، حيث تأسست مجموعة من العلوم الأساسية، منها علم الميكانيكا الذي وضع أسسه العلمية ليوناردو دافنشي (1452 ـ 1519)، وعلم التشريح الذي أسسه فاسالياس، وعلم الفلك الذي أسسه الإيطالي نيكولاس كوبرنيكوس (1473 ـ 1543)، أما المرحلة الثانية فتمتد إلى البلاد المنخفضة وفرنسا وبريطانيا، مبتدئة بالفيلسوف بيكون والعالمين جاليليو ونيوتن، وقد أسفرت هذه المرحلة عن وضع نموذج رياضي ميكانيكي للعالَم، وبعد فترة بدأت مرحلة ثالثة كان مركزها فرنسا الثورية وبريطانيا التي كانت قد قطعت شوطاً بعيداً في تطوير الصناعة.
وقد شهدت هذه المرحلة اكتشاف الطاقة الكهربائية التي تعد أحد أهم الاكتشافات العلمية على مدار التاريخ، لأنها مكنت الإنسان بجدارة من تطوير الإنتاج الصناعي والآلات والأجهزة الأوتوماتيكية، وأسفرت عن عدد هائل من المخترعات والمكتشفات اللاحقة، أما رابع المراحل وأكبرها حجماً وأثراً، وإن لم تكن أكبرها في الإنجاز الأصيل، فهي مرحلة الثورة العلمية التي تفجرت في أوائل القرن العشرين، وشكلت نقلة فريدة في تاريخ العلم، إذ حولته من علم محلي إلى علم عالمي، وأصبحت الاكتشافات والتطبيقات العلمية في هذا القرن ذات صبغة كونية يستفيد منها الجنس البشري كله في وقت واحد، ولعل أبرز الأمثلة على هذه النقلة شبكات الاتصال والمعلومات التي ربطت العالم كله بعضه ببعض، وقربت المسافات بين الأمم، وألغت الحدود، وحولت كوكب الأرض إلى قرية صغيرة.
وقد ساعد على تحقيق هذه الإنجازات العلمية العظيمة في العصور الحديثة عوامل عدة، منها تفرغ أعداد أكبر فأكبر من العلماء للبحث العلمي، وتحوَّل العمل في المختبرات ومراكز البحث من الأسلوب الفردي التقليدي إلى أسلوب عمل الفريق ( Team Work)، وإنشاء الجمعيات العلمية ومراكز البحث العلمي التي ساهمت بتوفير المناخ المناسب للباحثين، وبفضل هذه الجمعيات والمراكز العلمية الرائدة لم يتحقق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط المنظم في العلم فحسب، بل إن إنشاءها دعَّم مبدأ رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم.
ومن جراء هذا التحول راح عدد المشتغلين بالعلوم والمتفرغين للبحث العلمي في العالم يتزايد باطراد، حتى وصل في أواخر القرن التاسع عشر إلى أكثر من (15.000 باحث) ثم قفز العدد في منتصف القرن العشرين حتى وصل إلى أكثر من (مليون باحث) وارتفعت ميزانيات البحث العلمي في الفترة نفسها من (مليون دولار) إلى أكثر من (20 مليار دولار)، أي إنها تضاعفت أكثر من (20.000 مرة)، أما حجم المعرفة البشرية الذي كان في الماضي يحتاج إلى مئات السنين لكي يتضاعف فقد أصبح في أواسط القرن العشرين يتضاعف كل (10 ـ 15 سنة) ثم أصبح في أواخر القرن العشرين يتضاعف كل (5 سنوات)(4).
كما حصلت في العصور الحديثة تحولات مهمة في مراكز البحث العلمي ساهمت في إثراء البحث في مختلف العلوم، فقد كان البحث العلمي حتى أواخر القرن التاسع عشر حكراً على أوروبا وحدها تقريباً وبخاصة منها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، أما بقية مراكز العلم في قارتي أوروبا وأمريكا فكانت مجرد فروع ثانوية للمراكز الأوروبية، ولم تكن هذه المراكز الفرعية تضيف إلى حصيلة العلم إلا النزر اليسير، ومع إطلالة القرن العشرون بدأت مراكز العلم تنداح بقوة متجهة إلى مواقع جديدة من هذا العالم، ولاسيما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي واليابان والصين وغيرها، مما أضفى على العلوم في القرن العشرين سمة عالمية.
أضف إلى هذا ما حصل في العقود الأخيرة من تحولات جذرية في أساليب العمل العلمي، ولاسيما منه تفرغ عدد كبير من العلماء للبحث العلمي، إلى جانب التنسيق والتعاون بين مراكز البحث العلمي المختلفة في العالم، مما اختصر الزمن اللازم للانتقال من المرحلة النظرية إلى مرحلة التطبيق العملي، وعلى سبيل المثال فإن الانتقال من المرحلة النظرية للتصوير الضوئي (Photography) إلى التطبيق الفعلي استغرق زهاء 112 عاماً (1727 ـ 1839) أي أكثر من قرن من الزمن، ونجد في المقابل أن تفجير القنبلة الذرية التي هي أشد تعقيداً من التصوير الشمسي بما لا يقاس لم يستغرق سوى ست سنوات فقط (1939 ـ 1945).
ومثال آخر.. فإن الطائرة البسيطة المتواضعة التي اخترعها الأخوان رايت في عام 1903 التي طارت لمسافة قصيرة لم تتعدى مائتي متر، وكانت تقفز عن الأرض ثم تعود لتحط عليها كالجرادة، قد تطورت في غضون سنوات قليلة لتصبح طائرة جبارة تحمل مئات الركاب، وسريعاً ما تحولت هذه الطائرة إلى صاروخ هائل الحجم لم يلبث أن حمل أول رائد فضاء إلى سطح القمر (الأمريكي آرمسترونغ، عام 1969) وقد حصلت هذه التطورات التي تجاوزت حدود الخيال في غضون نصف قرن من الزمان لا أكثر!
ومن العوامل المهمة التي ساهمت مساهمة كبيرة في تحقيق هذه الإنجازات العلمية العظيمة أن العلماء خلال القرون الأخيرة تمكنوا بجدارة من المزاوجة ما بين الفكر النظري والتطبيق العملي فيما اصطلح على تسميته باسم التقانة (Technology) التي حققت لنا في سنوات قليلة ما لم يستطع أجدادنا تحقيقه في دهور ودهور، وقد أدخلتنا هذه التقانة مرحلة جديدة جعلتنا أكثر تفاؤلاً بإمكانية تحقيق الكثير من أحلامنا المستقبلية الواعدة، ليس بعيداً في المستقبل، بل في غضون العقود القليلة القادمة.
إننا مقبلون حقاً على تطورات تفوق الخيال، ولم يعد بعيداً عنا ذلك اليوم الذي سوف نتمكن فيه من التصرف بالمادة والطاقة على نحو يتيح لنا تسخير العالم من حولنا بسهولة ويسر، وعندئذ سوف تدخل آلاتنا الحالية وأجهزتنا المعقدة متحف التاريخ، لأننا يومئذ سنكتفي بتوجيه أوامرنا للأشياء شفاهة على طريقة الحكاية الأسطورية.. حكاية علي بابا: (افتح يا سمسم!) فيتم لنا ما نريد، وعندئذ نكون قد خطونا الخطوة الحاسمة نحو تحقيق مضمون الآية الكريمة: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ جميعاً منهُ)) سورة الجاثية 13.
الإنجازات العلمية الحاسمة:
ونعني بها الإنجازات العلمية التي كان لها تأثير جذري عميق على حياة الإنسان، وعلى علاقات البشر بعضهم ببعض، وقد حقق العلم عبر تاريخه الطويل الكثير من هذه الإنجازات التي ظهر بعضها في وقت مبكر من تاريخ البشرية، في أزمنة وأمكنة متباعدة.
وعلى الرغم من حداثة تلك الإنجازات في مطلع التاريخ البيشري فقد كانت ومازالت مؤثرة في حياتنا تأثيراً كبيراً، ومنها على سبيل المثال اكتشاف النار وتسخيرها، فقد شكلت النار في القديم مصدراً مهماً من مصادر التدفئة، وأنقذت الإنسان من الموت بسبب البرد والصقيع، وبخاصة عندما كان يعيش في العراء أو في الكهوف والغابات، كما أن النار غيرت أسلوب طعامه وشرابه، فأصبح يستخدمها في الطهي وتسخين الطعام، كما أن النار ساعدت الإنسان في مقاومة الوحوش التي تخاف النار وتخشاها، وأضافت النار إلى قوة الإنسان العضلية قوة جديدة ساعدته في حروبه ودفع أعدائه، وفي تاريخ العلم يعد استخدام الإنسان للنار في طهي الطعام أول تفاعل كيميائي عرفه الإنسان(5) ، وقد عمل بعد ذلك على استخدامها في أغراض لا حصر لها في الصناعة وغيرها.. وبهذا شكل اكتشاف النار واستخدامها من قبل الإنسان نقلة نوعية فريدة في التاريخ البشري.
أما اكتشاف الكتابة والأبجدية فقد ساهم مساهمة أساسية في حفظ التراث البشري، وتناقل العلم والفكر والتواصل بين البشر عبر هذه الوسيلة الجديدة، وساهم في تراكم المعارف البشرية التي لولاها لما أمكن حصول أي تطور في العلم، كما أن الأبجدية جعلت الكتابة أيسر وأسهل، وكذلك عملية التعلم والتعليم.
وساهم اكتشاف الزراعة باستقرار البشر في الأرض، وتشكيل المجتمعات البشرية، وبناء المدن والحضارات، أما اكتشاف العجلة أو الدولاب فقد أدى إلى تحسين وسائل التنقل، وساعد الإنسان في نقل متاعه وبضائعه، ولا خلاف بأن الدولاب يعد أهم اختراع في تاريخ العلم، لأنه شكَّل الأساس في مختلف الآلات ومعظم الأجهزة التي ظهرت فيما بعد.
وهكذا كان لكل من الاكتشافات والاختراعات القديمة ـ على قلتها ـ أثر واسع وعميق في حياة الإنسان، وقد تطورت الأمور سريعاً في العصور الحديثة بعد أن تضافر العديد من المخترعات والمكتشفات، وتوافرت القاعدة التقنية الكافية ذات الكفاءة العالية، فأصبحت الإنجازات العلمية أيسر وأسرع كثيراً مما كانت في الماضي، وقد بلغ التقدم العلمي في القرن العشرون بخاصة أوج تقدمه وتطوره ونشاطه، وتمخض عن عدد هائل من الإنجازات العلمية التي جعلت القرن العشرين محطة فريدة في تاريخ العلم، وغيرت صورة العالم حتى غدا عالماً غريباً عجيباً يخلب الألباب، ويجعل الحليم حيران، ولو قدِّر لشخص مات قبل قرن واحد من الزمان فقط أن يعود اليوم إلى الحياة ليشهد ما الذي فعله العلم في حياتنا لما صدق عينيه، ولربما أصيب بالجنون من هول ما يسمع ويرى، وأنى لعقله ـ الذي تشكل في عصر لم يعرف الكهرباء والذرة والصاروخ والطائرة والكومبيوتر والتلفزيون ـ أن يستوعب هذه النقلة العلمية المذهلة التي دبَّت في كل شيء، وأبدعت آلات وأجهزة ووسائل تتحرك تلقائياً، أو توجَّه عن بعد.. إنه دون ريب سوف يظن ذلك كله من عمل الجن والعفاريت!
وما من شك بأن الإنجازات العلمية الحاسمة التي شهدها التاريخ قد أثرت تأثيراً حاسماً في حياة البشر، ليس على الصعيد الاجتماعي فحسب، بل على مختلف الأصعدة، وبخاصة منها الصعيد السياسي، فمع كل اكتشاف أو اختراع أو إنجاز حاسم كان ميزان القوى يميل لصالح الجهة التي أنجزته، وهكذا مضت الحال على مدار التاريخ، إلى أن استقر الميزان في عصرنا الراهن لصالح (الغرب) بزعامة الولايات المتحدة التي كادت تنفرد بأكبر الإنجازات العلمية ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا ما جعلها تتزعم قيادة العالم، وتغدو القطب الوحيد الذي يدور مصير العالم من حوله!
وفي هذا درس كبير ينبغي أن نتعلمه من تاريخ العلم، فقد ولَّى إلى غير رجعة عصر الزعامة التي كانت في الماضي تعتمد على القوة العضلية، أو المكانة الاجتماعية، أو زعامة القبيلة، أو غيرها من أشكال القوة المادية، وأصبحت الزعامة والقيادة اليوم حكراً على الذين يمتلكون الرصيد الأكبر من العلم، وصدق الله العظيم الذي يبين في كتابه الكريم ما للعلم من مكانة عظيمة، فيقول: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لا يَعْلَمُونَ، إنَّما يَتَذَكَّرُ أولُو الألبابِ)) سورة الزمر 9.
إحالات:
1- كاتي كوب، هارولد جولد وايت: إبداعات النار، ص 27، ترجمة د.فتح الله الشيخ، عالم المعرفة، العدد 266 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 2001.
2 - انظر: د.فؤاد زكريا (التفكير العلمي) ص 164، ذات السلاسل، الكويت 1989.
3 - ج.د.برنال: العلم في التاريخ، 1/ 8، ترجمة د.علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981.
4- المصدر السابق، ص 209.
5- كاتي كوب، هارولد جولد وايت: إبداعات النار، ص 14، مصدر سابق.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات