لكم يؤلمنا أن صديقا عزيزا علينا قد فهم منا غير ما نريد إيصاله وشرحه. وغالبا ما يتم ذلك الالتباس، حين تخوننا الكلمات وتخذلنا الإشارات في التعبير عن الذات والرغبات، أو حين نقصر في شرح وإيضاح المقصود، فنختصر، كي نداري الوقوع في المباشرة، ونكتفي بالتلميح دون التصريح، والاختزال دون الإطالة، ونعتمد على الإشارة، لظننا أنها بينة الدلالة، وأن مرامينا واضحة، لكننا للأسف نقع في ما لا يُحمد عقباه، دون أن ننتبه أو ندري أن مدلولات تلك الإشارات وتفسيراتها لم تكن كما حسبنا، بينة الدلالة، أو لعل تفسيراتها تختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والخلفيات والمكونات.
لا شك أن لغة الأبجدية المكتوبة والمنطوقة هي وسيلة التخاطب والتواصل الرئيسية بين الناس، وهي أهم وسائل التعبير، وأكثرها شيوعا، وأسهلها فهما، للتعبير عن دواخل الناس، والرأي، ونقل المعلومات، والتأثير في المتلقي، إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة. فهناك وسائل أو لغات أخرى للتعبير غير لغة الأبجدية، وهي لغة الخواص، لكنها صعبة معقدة أحيانا، وإن تكن جميلة في أغلب الأحيان.
فالموسيقي البارع الذي يكتب رسائله، ويخاطبنا بالعزف على الأوتار، يستطيع التأثير في عواطفنا ومشاعرنا، والتحكم في انفعالاتنا، وتوجهها، وتحويلها من حالة وجدانية، إلى حالة وجدانية أخرى، فيستبدل حزننا فرحا، وضحكنا بكاءً، ويحول سكينتنا إلى حركة وصخب وضوضاء.
وبالمساحات اللونية يكتب الرسام آراءه وانطباعاته، وبتناغم هذه المساحات اللونية أو تنافرها، وفي هدوئها وصخبها، يعبر عن رؤيته ومشاعره وأحلامه، ويرسل رسائله التي تحتوي الكثير من الأسرار، وتحمل الكثير من الاكتشافات والتأويلات والتفسيرات.
والحروف الأبجدية ليست للكتابة فقط، بل للرسم والتصوير أيضا، وبها يرسم الشاعر مشاهد وانفعالات ومقولات، ويلونها بالدهشة والتحديات، والإيحاءات والتنبؤات.
وكما للألوان والأوتار والأشعار لغاتهم، كذلك للجسد لغته وأدوات تعبيره أيضا، كما للثياب أدواتها ووسائلها التعبيرية في نقل الرسائل، والتعبير عن الذات.
ولغة الرمز والإشارات تعادل في صعوبتها لغة الشاعر والموسيقي والرسام، لأنها تتطلب معرفة وثيقة بالبيئة الشعبية ورموزها وثقافتها وأساطيرها، فالإشارات والرموز ذاتها تختلف في مدلولاتها بين الشرق والغرب، وبين ثقافة وأخرى، لا بل حتى كلمات اللغة الواحدة تختلف إسقاطاتها من مكان لمكان، ومن مدينة لأخرى. فالبسط والانبساط في مصر وسوريا، ليس كما هو في العراق، وشتان بين الحالتين. وكما يختلف مدلول كلمة (عزيزي) من مدينة إلى مدينة في الدولة الواحدة، كذلك يختلف مدلول كلمة (منزول) التي تعني في مدينة، نزلا أو قاعة واسعة يملكها وجيه القرية أو الحي، تبقى مفتوحة لاستقبال الغرباء والضيوف، واجتماع وسهر أهل الحي، وتعني في مدينة أخر اجتماعات محرمة مشبوهة مع النساء. وكذلك الأمر بالنسبة لمعاني بعض أسماء الأكلات، ف(المحشي) الذي هو نوع من الطعام في سوريا ولبنان (الكوسا أو الباذنجان المحفور والمحشو باللحم والأرز) لكنه في عرف أهل الجزائر يعني شيئا آخر بذيء المدلول.
والصمت أيضا لغة، بل أخطر اللغات. ورغم أنه بلا حروف أو حركات أو أصوات، إلا أنه لغة منطوقة، كثيرا ما تحل بعده العاصفة. وهو كوسيلة من وسائل التعبير أشبه ما يكون بالطلقة القاتلة التي لا تترك للطرف الآخر فرصة للدفاع عن النفس والتوضيح، ورد الاتهامات، وتبديد الالتباسات.
أخيرا من قال أن العيون لا تنطق أو لا تكتب وتقرأ. ومن قال أنها لا تعزف الألحان وتعكس المشاعر وتفضح الخبايا، وترسم اللوحات والصور. أليست لغة الزوج والزوجة في وجود الضيوف، ولغة أبناء الأسرة الواحدة؟ أليست لغة العشاق صغار السن في بلداننا، وفي أيامنا المنصرمة البالية. ألم يؤكد ذلك الأخطل الصغير بصوت عبد الوهاب، حين قال : وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيناي في لغة الهوى عيناك.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية