1- تنويه

بداية لا بد من التنويه أن التوراة التي نقرأ منها، ظل علماء بنو إسرائيل قرونا عديدة يكتبون فيها، ويعيدون صياغتها، وينقحون قصصها، فيضيفون إليها ويحذفون منها، بما يلاءم

الحلقة الأولى
رؤيتهم ويوافق توجهاتهم. وسنبحث في مقالات لاحقة، في فنونها الأدبية وموضوعاتها ولغاتها، ومواعظها وطقوسها وإرشاداتها.
ولا بد من التأكيد أيضا أننا نميز بين إله الناس كل الناس، الله المحب الغفور الرحيم الحي القدوس، الذي يفتدي محبيه والضعفاء، ويرأف بالبشر جميعا دون تمييز- وبين (يهوه) إله بني إسرائيل الخاص (خر 10/3) الذي صمموه على مقاسهم، ليناسب تصوراتهم ورغباتهم وبدائيتهم. الإله الذي يغار من الأوثان (خر20/5) ويسفك الدماء، ويأمر بالسلب والنهب (خر 11/2و12/36) إله متعصب لشعب واحد (خر19/5-6) إله لا قاعدة تحكم أفعاله، يكره باقي الشعوب، يقاتلهم، ويسعى لأن يطردهم من أراضيهم (خر23/30-32) ليحتلها شعب غريب يسميه (يهوه) شعبه المختار الخاص.

2- الذبائح البشرية
لم يكن المصريون والمؤابيون والوثنيون وحدهم- وإن كانوا الأسبق- الذين قدموا أبناءهم كذبائح وقرابين للآلهة، بل إن أبناء الديانة اليهودية، فعلوا ذلك بعدهم أيضا. فإبراهيم قدم ابنه ذبيحة ل (يهوه)، تأكيدا على إيمانه وولائه وطاعته. وتروي التوراة قصة ولادة إسحق، وقصة وضعه على المذبح، على الشكل التالي

خبر الولادة
كان إبراهيم جالسا في باب خيمته وإذ به يرى ثلاثة رجال، فركض نحوهم، وسجد أمامهم، ورجاهم أن يستريحوا في خيمته، ويغسلوا أرجلهم، ويأكلوا. فلما قبلوا دعوته، طلب من زوجته سارة أن تُسرع في صنع الخبز، وأحضر زبدا ولبنا، واختار عجلا جيدا، وأمر خادمه بتجهيزه. ولما أكلوا واستراحوا، سألوا عن زوجته سارة، وأخبروه بأنه سيكون لسارة ابن. وكانت سارة واقفة خلف الباب تسمع ما يقولون. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في السن. وقد انقطعت عن سارة عادة النساء. فضحكت سارة مما سمعت، وقالت في سرها: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز، وزوجي شيخ طاعن في السن؟ فقال (يهوه) لإبراهيم لماذا ضحكت سارة وقالت كيف ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على (يهوه) شيء؟ سأعود إليك في الميعاد وسيكون لسارة ابن. وبسبب خوفها أنكرت سارة أنها ضحكت. ثم خرج الرجال وخرج إبراهيم معهم، وتطلعوا نحو سدوم. وقال (يهوه) لإبراهيم إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيئتهم قد عظُمت جدا. وتتمة القصة أن (يهوه) افتقد سارة، فحبلت في الموعد الذي تكلم عنه. وولدت لإبراهيم في شيخوخته ابنا، وسماه إسحاق. وختن إبراهيم إسحاق وهو ابن ثمانية أيام كما أمره (يهوه)
إن من يقرأ هذه القصة لابد له أن يستغرب ويستنكر موقف اليهود من مريم العذراء، وكيف هم يفصلون مفاهيمهم وقناعاتهم ومعجزات (يهوه) على مقاسهم.! وإلا كيف يرفض اليهود ولادة مريم للمسيح، وهي عذراء، ويتهمونها. ويقبلون دون أي نقاش ولادة سارة لإسحق، وهي عجوز عقيم لم تلد في صباها، ولها من العمر أكثر من تسعين عاما.! فهل يستحيل على الله تعالى ولادة مريم للمسيح وهي عذراء؟ ويسهل على (يهوه) ولادة سارة لإسحاق وهي عجوز فانية عقيم؟ ألا يثير هذا المنطق الدهشة والاستغراب ؟

خبر الذبح
تقول التوراة: وحدث بعد هذه الأمور أن (يهوه) امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض المريَّا وأصعده على محرقة (مذبح) فوق الجبل الذي أحدده لك. فبكّر إبراهيم صباحا وشد على حماره وأخذ ابنه إسحق واثنين من غلمانه، وذهب إلى الموضع الذي حدده له (يهوه). فبنى فيه مذبحا ورتب الحطب، وربط ابنه على المذبح فوق الحطب، ثم مد يده وأخذ السكين وهم أن يذبحه ، فناداه ملاك وقال له لا تمد يدك إلى الغلام، لأني الآن علمت أنك تخاف (يهوه). فلم تُمسك ابنك وحيدك عني. فنظر إبراهيم فرأى وراءه كبشا قد رُبط بقرنيه. فذهب وأحضر الكبش وأصعده المحرقة عوضا عن ابنه.
وهنا يجب أن نميز بين الله المحب الذي يفتدي الصغار والضعفاء، وبين (يهوه) إله اليهود الذي يأمر بذبح الأبناء وإراقة الدماء ليستدل على طاعة الآباء.
كانت هاجر جارية لسارة. وقد ولدت الست سارة- حسب التوراة- ابنها إسحاق، وعمرها تسعين عاما، وعمر إسماعيل ابن الجارية هاجر، أربعة عشر عاما. وسبب (زواج) إبراهيم بهاجر أن شرع ما بين النهرين، الذي أخذ عنه اليهود، كان يمنح الحق للزوجة العاقر أن تقدم لزوجها جارية تمنحه الأولاد، ويصبح هؤلاء الأولاد، أولاد الزوجة الست. وتفسر التوراة سبب تسميته إسماعيل أن (يهوه) قال لهاجر: ها أنت حبلى وتلدين ابنا وتسمينه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك. إذ أن سارة قد طردت هاجر وأذلتها بعد أن حملت. ومن الطبيعي أن تغار الضرة من ضرتها حين تحبل، خاصة إذا كانت الأخرى عقيم. وتعيد التوراة سبب طرد هاجر أنها بعد أن حملت، صغرت سيدتها في عينيها فانزعجت سارة وطردتها.
لقد أراد اليهود أن يقولوا في توراتهم أن العرب الذين جدهم إسماعيل هم أبناء الجارية. واليهود الذين جدهم إسحاق هم أبناء الست. كما أن عملية طرد هاجر المصرية، تستبق الأحداث اللاحقة، وتمهد لعلاقة سلبية عنوانها الانتقام والكراهية بين بني إسرائيل والمصريين.
لا تعطينا التوراة عقابا نافعا بخصوص عمر إسماعيل حين طُرد هو وأمه هاجر، وشتتا في البراري والقفار، فروايات التوراة بهذا الخصوص مضطربة متناقضة. فمرة تقول أن إسماعيل حين طُرد مع أمه كان عمره أكثر من ستة عشر عاما (تك21/8-10) إذ أن إبراهيم طردهما، بعد فطام اسحق،الذي فُطم بعمر سنتين. ومرة تقول التوراة أن إسماعيل كان طفلا حين طرده إبراهيم هو وأمه هاجر. تقول التوراة: بكّر إبراهيم في الصباح وأخذ خبزا وقربة ماء ووضعهما مع الولد على كتف هاجر وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع. ولما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت أحد الأشجار... ثم: ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك يا هاجر. لا تخافي لأن الله قد سمع صوت الغلام حيث هو. قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة (تكوين 21/14-18)إذن فهو مرة شابا عمره أكثر من ستة عشر عاما. ومرة طفلا صغيرا يبكي تحت الشجرة وتحمله أمه على كتفها؟ فهل كان شابا أم طفلا؟ أي كلام نعتمد؟ وما هو الصحيح بين هذه المتناقضات؟
وهنا لا بد لنا أن نتساءل عن مفهوم العدل عند اليهود. فلماذا طُردت هاجر؟ ولماذا طرد إبراهيم ابنه، وشتته مع أمه في البراري والقفار؟ هل يكفي انزعاج ضرتها سارة أو غيرتها منها، لتطردها مع ابنها؟ أليس لهاجر وابنها حقوق؟ أليست هاجر زوجة إبراهيم، وإسماعيل ابنه؟ أم أن الجارية وابن الجارية لا حقوق لهما؟ أم لأن سارة تريد أن تحرمه من الميراث وتستأثر به كاملا لابنها (تك21/10)
شيء آخر يثير الحيرة والتساؤل أيضا. فقد وصفت التوراة اسحق حين أُُمر إبراهيم أن يقدمه ذبيحة ل(يهوه)، وصفته بأنه الابن الوحيد لإبراهيم. فكيف هذا وإبراهيم له من الأولاد اثنان هما إسماعيل واسحق. ؟ (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى ... تك22/2). وقد تكرر هذا الوصف في التوراة عدة مرات بأن إسحاق وحيد إبراهيم. بينما من المفترض أن يكون إسماعيل وحيد إبراهيم قبل ولادة إسحق. فما تفسير ذلك؟ ألا يُحتمل أن يكون الذبيح هو إسماعيل، وأمر الذبح قد تم قبل ولادة اسحق، حين كان إسماعيل وحيد إبراهيم واستبدل اسم إسماعيل، لاعتبارات كثيرة، باسم اسحق بعد ولادته؟
يأمر (يهوه) إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده الذي يحبه اسحق. لماذا..؟ كي يختبر إيمان وطاعة إبراهيم (وحدث بعد هذه الأمور أن (يهوه) امتحن إبراهيم .....قال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق....تكوين 22/1-2). وحين يهم إبراهيم بذبح اسحق يخاطبه ويقول له (لا تمد يدك إلى الغلام. ولا تفعل به شيئا. لأني الآن علمت أنك تخاف (يهوه) فلم تمسك أبنك وحيدك عني- تكوين 22/12). إذن الآن فقط علم (يهوه)أن إبراهيم يخافه ويطيعه، ولولا هذه التجربة لما عَلم (يهوه)!! أي أن (يهوه) الإله الخاص باليهود لا يعرف ما في قلوب شعبه الخاص به، ويحتاج أن يختبرهم، لكي يعرف.! إن ما نعرفه نحن عن الله سبحانه وتعالى أنه علام الغيوب، ويعرف ما في القلوب، ولا يحتاج لاختبار كي يعلم. هذا أولا. وثانيا لماذا اختار (يهوه) اختبار الذبح ليعرف مدى إيمان وطاعة إبراهيم؟ ألا توجد لديه طريقة أخرى، واختبار آخر غير اختبار ذبح البشر وغير القتل وغير الدم؟ ثالثا: لقد ذُبح كبش وأريقت دماء، أي تمت مغفرة عن خطيئة، فحسب التوراة تسفك الدماء لأجل المغفرة (وكل شيء تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة- عب9/ 22) فما هي الخطيئة التي ارتكبت، وكاد- لولا الكبش- دم اسحق أن يُراق تكفيرا عنها وتطهيرا لها؟
لا تذكر لنا التوراة كم كان عمر اسحق عندما أراد أبوه إبراهيم أن يقدمه ذبيحة، ورغم أنها تتحدث مطولا عن الكثير من التفاصيل وعن الكثير من دقائق الأمور. إلا في هذه المسألة فإنها لا تقدم لنا أية مساعدة بهذا الخصوص أبدا، مما يعطينا الحق أن نستنتج أنه كان طفلا لا يعي، ويستطيع أبوه السيطرة عليه.
تجهد التوراة كي تؤكد لنا أن الذبيح هو إسحاق. ولو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، لمرت على الأمر مرور الكرام، ولما بذلت كل هذا العناء للتأكيد أن الذبيح هو إسحق.. (خذ ابنك (وحيدك) ..... واذهب إلى أرض المريّا ... تك22/2) وإسحاق ليس وحيد أبيه، ولا يمكن أن يكون كذلك بأي حال من الأحوال، فالعقل والمنطق يرفض هذا، ويقول إذا كان ثمة ابن وحيد فيجب أن يكون إسماعيل، وقبل ولادة إسحق، إلا إذا كانت مفاهيم وعادات بني إسرائيل لا تعتبر أن ابن الجارية إسماعيل يرقى إلى مرتبة ابن الست إسحاق. خاصة وأن إسماعيل جد العرب وإسحق جد اليهود. ثانيا: إن احتمال أن يضحي إبراهيم بإسماعيل ابن الجارية أقوى بكثير من احتمال أن يضحي بإسحاق التي لن تسمح أمه الست سارة بذلك، خاصة وأنه يحبه وآثره بالميراث. وأمه سارة التي هي أخت إبراهيم، لها نفوذ كبير على زوجها، وقد تمثل هذا النفوذ جليا في حادثة طرد هاجر وابنها بلا ذنب ارتكباه. بينما طرد ابنه الآخر ولم يهتم لأمره ولم يعد يراه، لأن أمه جارية لا حقوق له ولها.
نشير أخيرا إلى أنه كثيرا ما كان يقع التباس في قراءة النصوص التوراتية لأن اللغة العبرية المكتوبة كانت فيما مضى تهمل الحركات والفواصل بين الجمل، مما سبب الكثير من المشاكل وسوء الفهم للقراء. واستمر هذا الحال على هذا المنوال، حتى القرن السابع الميلادي حيث اهتدى الباحثون اليهود إلى وسيلة واضحة لكتابة الحركات، وحل هذه المشكلة.
ونشير أيضا أن الصيغة الرسمية للتوراة لم تُقرر نهائيا إلا في القرن العاشر الميلادي بعد أن نقحها ونسخها عالم يهودي من عائلة ابن أشير في طبرية.
[email protected]