في بداية الألفية الثالثة بدأ تعاوني مع صحيفة ( الشرق الأوسط) اللندنية بإرسال الأخبار والتقارير الصحفية من كردستان. وكانت الصحف الدولية قد أوشكت في تلك الفترة تهتم بالشأن الكردستاني وتتابع أوضاع المعارضة ضد النظام عن كثب، خاصة وأن كردستان أصبحت مركزا محوريا لإستقطاب قوى المعارضة العراقية الفاعلة على الساحة العراقية.
وكانت هناك توصيفات لتلك القوى سبق أن ضمنها الزعيم الكردي جلال طالباني بعض خطبه السياسية وذلك بوصف بعضها بـ( معارضة الخنادق) وأخرى بـ(معارضة الفنادق)؟!.. وكان الوصف دقيقا ومتطابقا جدا مع واقع المعارضة العراقية في تلك الفترة، حيث كانت هناك قوى وتنظيمات وأحزاب كثيرة تمارس نشاطها السياسي من داخل فنادق الدرجة الأولى ذات الخمسة نجوم الموزعة في أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدول الأوروبية من دون أن يكون لها وجود على الساحة النضالية،فقد كان يكفي أن تكون شخصية سياسية ملاحقة أو إبنا لوزير سابق في الحكومات العراقية لكي تكرمك الولايات المتحدة أو بريطانيا أو إيران بمنحك ترخيص تشكيل منظمة أو حزب ثوري بأسماء براقة زائفة وتخصص لك ميزانية ضخمة بالدولارات والباونات تحت اسم دعم المعارضة العراقية، في الوقت الذي كانت معظم الأحزاب الحقيقية التي كانت متواجدة على الساحة العراقية تواجه أعتى وأشرس الديكتاتوريات على الأرض تفتقر حتى الى ثمن رصاصات البنادق وهي تواجه آلة الحرب الصدامية بأسلحتها للإبادة الشاملة.
كنت والزميل ستران عبدالله الذي يرأس اليوم مؤسسة ( خندان ) الصحفية في كردستان قد أضفنا الى ذلك الوصف بإضافة صنفين آخرين على المعارضة، حيث إكتشفنا وجود معارضة ( البنادق ) و( معارضة البيادق). وكان رأي الزميل ستران، أنه ليس كل من يتواجد داخل الخنادق هو بالضرورة مناضل على الساحة، بل هناك أحزاب موجودة فعلا في الخنادق لكنها لا تستعمل البنادق لمواجهة الدكتاتورية الصدامية،ولا أريد تسمية تلك الأحزاب التي كانت معظمها قد دخلت الى كردستان في تلك الفترة إما لذر الرماد في العيون وإثبات وجودها الزائف على الساحة حيث كانت مقرات قيادة هذه الأحزاب لا يتجاوز عدد منتسبيها عن أصابع اليد الواحدة مع عدد من الحراس الذين كان معظمهم من الشرطة الكردية المحلية،فيما كانت هناك أحزاب أخرى حضرت الى الساحة لمجرد الحصول على بعض المغانم من كعكة المعارضة؟!.
أما ( معارضة البيادق )، فقد كان الوصف من صنعي، حيث كنت أرى أنه رغم وجود عدد من الأحزاب الثورية داخل الساحة العراقية ولها شعبية وإمتدادات فيها، لكنها أحزاب تحولت الى بيادق بيد القوى الخارجية وخصوصا الأقليمية. وقد أثبتت الأحداث بعد سقوط النظام السابق أنني كنت على حق بذلك التوصيف ، لأن معظم الأحزاب الحاكمة الآن والتي أودت بالعراق الى التهلكة جراء صراعاتها الطائفية كانت وما زالت ( بيادق ) بيد القوى الأقليمية والدولية؟!..
أعود الى الموضوع ألأساسي من حيث إهتمام الصحافة العالمية بأقليم كردستان المحررة التي أصبحت مركزا لتلقي الأخبار المتعلقة بالوضع السياسي العراقي.واصلت تعاوني مع صحيفة ( الشرق الأوسط ) حتى صدر قرار بإعتمادي مراسلا لها في كردستان، فتفرغت من وظيفتي الحكومية بأمر من الصديق الدكتور برهم صالح الذي كان يرأس الحكومة الأقليمية، حيث رأى بفكره الثاقب أهمية أن يكون لنا حضور في الصحافة الدولية لإيصال الصوت الكردي والوضع العراقي اليها بعد أن فتحت ( الشرق الأوسط) صفحاتها أمام تدفق الإخبار والتقارير الصحفية عن العراق وكردستان.وفعلا إستفاد الشعب الكردي كثيرا من تلك الإطلالة على الصحافة العالمية لتعريف قضيته القومية العادلة بالمحافل الدولية عموما وبالعربية على وجه الخصوص.
إثر سقوط النظام الفاشي طلبت مني إدارة صحيفة ( الشرق الأوسط) أن أترك كردستان وأذهب الى بغداد لفتح مكتب للصحيفة هناك، والبحث عن الكوادر الصحفية للعمل فيه.وهكذا كان، حيث ذهبت الى هناك وإتسعت دائرة مهماتي الصحفية فكنت تقريبا المراسل الوحيد في بغداد أغطي الأخبار والتقارير لفترة وجيزة قبل أن أتمكن من فتح المكتب المطلوب والحصول على بعض الكوادر الصحفية للمكتب.
عندما دخلت بغداد لم تكن الأوضاع الأمنية بمثل هذا التدهور الذي تشهده الآن، كانت هناك هجمات إرهابية محدودة جدا كتفجير بعض السيارات في الأسبوع مرة أو مرتين، فلم يكن تنظيم القاعدة قويا بعد، كما أن البعثيين لم يكونوا قد لموا صفوفهم وجمعوا فلولهم بعد، كانت الأجواء شبه مستقرة نخرج في المساء الى المطاعم والمتنزهات والنوادي من دون خوف.
في تلك الأيام حدثت ثورة حقيقية في مجال الصحافة العراقية مماثلة لما جرى في كردستان عام 1991 عقب تحررها من قبضة النظام كما ذكرت في مقال سابق. وهذه الثورة دلت على مدى تعطش العراقيين للحرية الإنسانية ولعطش الأقلام الحرة الى الحرية الصحافية. ولكن تلك الثورة كانت لها سلبياتها القليلة الى جانب إيجابياتها الكثيرة. فقد أصبح بإمكان كل من هب ودب أن يصدر جريدة أو مجلة فإزدحمت الساحة الإعلامية بالعناوين الصحفية ، الغث منها والسمين، الصالح والطالح.. الصالح ما كان ينتظره المثقفون العراقيون لسنوات طويلة، والطالح ما كان ينتظره الطائفيون وأعداء التغيير وأنصار النظام السابق لبث السموم والحنين الى الأيام الخوالي.
تعرفت في بغداد على عدد كبير من السياسيين العراقيين الذين جاؤا من المنفى، وكذلك الطبقة الجديدة من المسؤولين الذين ظهروا فجأة على الساحة السياسية من دون أن يكون لأي منهم جذور في المعارضة، أو حتى شعبية داخل مكوناتهم ،كل ما في الأمر أنهم كانوا حراسا لبعض المقرات ومن نزلاء فنادق الدرجة الأولى في دول أوروبا وأمريكا أو حتى من أقارب زوجات بعض قادة الأحزاب الجديدة التي بدأت تظهر تباعا في العراق.
قابلت أشخاصا يحتلون مراكز متقدمة في السلطة الجديدة أقل ما يمكن وصفهم به ، أنهم كانوا ( أميون) من الدرجة العاشرة، حتى كدت أتحسر على بعض قيادات البعث السابق من أمثال حسين كامل الذي كان يريد أن يحتل موقع صدام كرئيس للجمهورية وهو لم يكمل الدراسة المتوسطة، أو مثل علي حسن المجيد الذي ترفع من سائق سيارة في الجيش برتبة نائب عريف الى فريق أول ركن ووزير!!.
وكان بين هؤلاء الساسة الجدد من يرهن زوجته لمجرد الظهور ولو لدقائق معدودة من على شاشة قناة ( الجزيرة) التي كان مراسلوها يبكون على أطلال بغداد، ويذرفون الدموع الحارة على التمثال المقطوع الرأس للدكتاتور. فرغم كل مساويء ( الجزيرة) وخطابها الإعلامي الممسوخ الداعي الى عودة الدكتاتورية بما معناه القضاء على السلطة الحالية بعملية أنفال جديدة ضد الشيعة هذه المرة ، لكن كان هناك الكثيرون ممن يأخذهم البريق الإعلامي لهذه القناة من دون أن يهتموا بخطابها الإعلامي الداعم للإرهابيين في العراق، حتى أنني أستطيع أن أجزم بأنه لولا ذلك الخطاب الإعلامي المكروه لقناة الجزيرة، لما آلت أوضاع العراق الى ما هو عليه اليوم، لأنه بقدر ما كان المسؤولون العراقيون الجدد مأخوذون بالبريق الإعلامي للقناة، كان الإرهابيون يحتلون مساحة واسعة من إهتمامات القناة ويجدون فيها منبرا لطرح أنفسهم وحشد الدعم لهم في الجزائر والمغرب وفلسطين وغيرها من الدول التي كانت ترسل أفواج شبابها الى العراق لتفجير أنفسهم داخل شوارع بغداد ليقتلوا العراقيين الأبرياء الذين لم يكونوا قد تنسموا هواء الحرية بعد.
وعندما صدر قرار من الحكومة العراقية بغلق مكتب الجزيرة في العراق، وجدت القناة نافذة ضيقة مفتوحة لها في كردستان، ويا للعجب؟؟!!
حتى قياداتنا الكردية إنبهروا بذلك البريق الإعلامي للجزيرة، فسمحوا لمكتبها في أربيل بممارسة نشاطه رغم صدور قرار من الحكومة( الإتحادية !) بمنعها من العمل داخل العراق؟!!..وأعتقد أن المكتب ما زال شغالا في كردستان على الرغم من أن القائمين عليه لم يقدموا ولن يقدموا شيئا للشعب الكردي من وراء عملهم في ذلك الجهاز الإعلامي الضخم، اللهم إلا الشماتة في التجربة الكردية وتشويه قضية الكرد العادلة في العراق.
بهذا المقال أختتم سلسلة من الذكريات والخواطر عن مسيرتي الصحفية الممتدة عبر 38 سنة متواصلة والتي حفلت بالكثير من الطرائف والهموم، وأعتقد أن لدى الآخرين الكثير من ذكريات أحلى وهموم أكبر خصوصا وأن الصحاف العراقية رزحت لسنوات طويلة تحت وطأة الحرمان من الحرية ما يجعل لكل صحفي وحامل قلم قصة معها، طريفة كانت أو حزينة..

[email protected]