بعد إنتفاضة آذار عام 1991 والتي حررت كردستان من قبضة النظام الفاشي، حدثت ثورة حقيقية في الصحافة الكردية.. فعقب تلك الإنتفاضة وإثر إنسحاب القوات العراقية من كردستان تحت ضغط قوات الحلفاء التي أشرت خطا أحمر على خارطة العراق وتحديدا عند خط العرض 36 منعت طائرات صدام حسين من تجاوزه، تمتعت كردستان بحرية غير مسبوقة في تاريخها رغم عدم حصولها على حق الإستقلال بعد، لكن إنسحاب أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والحكومية من المنطقة وتسلم القيادة الكردية زمام الأمور فيها،فتح مجالا رحبا أمام بناء تجربة نموذجية في المنطقة، وهي تجرية الإدارة الذاتية للأقليم بعيدا عن هيمنة النظام الحاكم.
بعد أيام قلائل من بدء المفاوضات بين القيادة الكردية والحكومة العراقية في نيسان من عام 1991 كنت أعمل في المكتب الإعلامي للحزب الإشتراكي الكردستاني المعارض للنظام، وكان مقرنا آنذاك في شقلاوة. وكانت جميع صحف المعارضة متوقفة عن الصدور بإنتظار وصول تلك المفاوضات الى إتفاقية تسمح بعودة الصحف الى الصدور مجددا. ولكني قمت بمغامرة شكلت نقطة تحول في مسيرتي الصحفية.حيث طبعت العدد الجديد من جريدة الحزب في مطبعة حكومية تابعة للنظام لأول مرة في تاريخ الأنظمة الحاكمة في العراق، فلم يسبق لحزب معارض أن تمكن من طبع جريدته في مطبعة حكومية من قبل. فكانت جريدتنا سباقة الى ذلك، تلتها صحف أخرى معارضة التي بدأت بدورها تطبع في المطابع التي تم الإستيلاء عليها بعد إنسحاب النظام العراقي من كردستان.
منذ تلك اللحظة بدأت ثورة حقيقية في مجال الصحافة الكردية حيث صدرت مئات الصحف والمجلات والنشرات، ثم صدرت أول جريدة يومية في تاريخ الصحافة الكردية وهي جريدة ( كوردستانى نوى) لحزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده الرئيس جلال طالباني،أعقبتها جريدة ( برايتي) التابعة لحزب الرئيس مسعود بارزاني..
عانت الصحافة الكردية الناشئة في تلك الفترة من إرث ثقيل بسبب تراكمات النهج الإعلامي والخطاب الممسوخ للنظام السابق،فقد كان الكثير من الصحفيين في تلك الفترة يعملون في الصحافة الحزبية ويعانون من آثار ذلك الخطاب الإعلامي الحكومي، مما شكل عقبة كبيرة أمام إرتقاء الصحافة في تلك الفترة الى مستويات متقدمة رغم إنفتاح أبواب من الحرية المطلقة أمامها،بالإضافة الى قلة خبرة الكادر الصحفي الحزبي، وكذلك بسبب أن معظم الصحف الصادرة في تلك الفترة كانت تابعة للأحزاب الكردية التي كان خطابها الإعلامي يشبه في أوجه متعددة نفس خطاب النظام السابق..
في أواخر التسعينات عملت محررا في جريدة ( الإتحاد) التابعة لحزب طالباني وبدأت بنشر مقالاتي الساخرة في زاوية صحفية فيها..
في تلك الفترة كانت لدينا زميلة ناشئة لم تكن قد عملت في أي صحيفة أو مؤسسة إعلامية سابقا لكنها كانت طموحة وترغب كثيرا في أن تلج عالم الصحافة، فطلبت مني أن أساعدها حتى تقف على قدميها،وطبعا مددت لها يدي . فكنت أوجهها لعمل بعض اللقاءات والتحقيقات الصحفية الصغيرة، خصوصا في المجالات الفنية، وأضع الأسئلة لها وأعيد صياغتها ثم ادفعها للنشر بإسمها.كنت أحاول أن أساعدها لتقف على قدميها رغم أنها أتعبتني كثيرا لأنها رغم كونها خريجة قسم اللغة العربية في الكلية، لكن لغتها كانت ركيكة وضعيفة جدا.
جاءتني ذات يوم وطلبت مني أن أضع لها بعض الأسئلة لأنها تنوي إجراء مقابلة صحفية مع أحد الوزراء في الحكومة الأقليمية!!.. وقالت لي: لقد طلبت مقابلة الوزير لعمل لقاء صحفي معه فطلب مني أن أرسل لها الأسئلة لكي يرد عليها فيما بعد تحريرا ؟؟!!. ورغم عدم قناعتي بمثل هذا الأسلوب في العمل الصحفي، ولكني وضعت لها بعض الأسئلة وسلمتها أياها..وفي المساء إتصل بي الوزير الذي كانت زميلتي تود إجراء المقابلة معه، وطلب مني أن أضع ردودي على تلك الأسئلة بإعتبارها ردوده هو!.. فأخذت منه الأسئلة التي كنت قد صغتها صباحا لزميلتي، وجلست في البيت أعد الأجوبة عليها.. وفي الصباح سلمت الأجوبة الى السيد الوزير الذي سلمها بدوره الى الصحفية. وعندما ذهبت الى الجريدة جاءتني الزميلة الصحفية بعد ساعتين وقالت : هذه هي ردود السيد الوزير أرجو أن تكتب مقدمة للقاء لكي أدفعه الى النشر. وهكذا صغت لها مقدمة ودفعنا اللقاء الى النشر.. وفي الصباح التالي صدرت الجريدة وفيها المقابلة باسم الزميلة الصحفية مع صورتين للسيد الوزير؟؟!!..كانت الطبخة كلها من صنع يدي ولكنها لم تكن ماركة مسجلة بإسمي؟؟!!.
ودارت الأيام حتى وصلت هذه الزميلة الى منصب مديرة مكتب لقناة فضائية عالمية ورئيسة لمنظمة صحفية، فيما ترشح الوزير المذكور الى منصب أعلى وأرفع من مناصب الوزراء؟؟!!..
وعندما أعترف اليوم بهذه الواقعة لا أدري هل إرتكبت خطيئة بمساعدتي تلك، أم كنت على صواب بمد يد العون لمن يطلبه مني، ومع ذلك فأنا على يقين بأن هناك عشرات أو مئات الحالات المماثلة تحدث اليوم في شتى أرجاء العالم ليس في مجال الصحافة تحديدا والتي تكثر فيها مثل هذه الحالات، بل في مختلف مجالات الإبداع والعمل، خصوصا عندما يكون هناك نوع من الإستغلال يؤدي في النتيجة الى خلق شخصية أو شخصيات وهمية.. فقد سمعت أن هناك من يضع دواوين الشعر بأسماء الآخرين أو يؤلف كتابا بهذا الإسم أو ذاك، كما أننا إعتدنا في دولنا الشرق الأوسطية أن نجد هناك دائما من يقف وراء الرئيس أو الحاكم يكتب له خطبه وكلماته في المناسبات الوطنية والقومية، ولكني عندما وجدت أن صدام حسين وهو من أولاد الشوارع يتحول بين ليلة وضحاها الى روائي كبير ويؤلف عددا من الروايات، وجدت أن ما فعلته أنا مع تلك الزميلة لا يساوي شيئا في القياس،فكما يقال ( إذا فسد الرأس فسد الجسد كله)..

[email protected]