في عام 1985 بدأت مرحلة جديدة في تجربتي الصحفية بعد أن إلتحقت بالثورة الكردية في جبال كردستان والتي إندلعت ضد النظام الدكتاتوري السابق منذ منتصف عام 1976.فقد إنضممت الى صفوف الحزب الإشتراكي الكردستاني الذي كان الدكتور محمود عثمان الشخصية السياسية الكردية المعروفة أحد أبرز قياداته الى جانب تركيبة قيادية تتألف من ألمع وجوه الثورة الكردية والمعارضة العراقية مثل عدنان المفتي رئيس البرلمان الكردستاني الحالي وعادل مراد العضو المؤسس للإتحاد الوطني الكردستاني والسفير العراقي حاليا في رومانيا اللذين أعتز بصداقتهما الممتدة منذ ذلك الوقت، وكان الى جانبهم العديد من الرموز القيادية في كردستان الذين تركوا ذلك الحزب وتوزعوا فيما بعد على قيادات معظم الأحزاب الكردية الموجودة حاليا على الساحة السياسية.
كنت أول صحفي كردي يلتحق بهذا الحزب في جبال كردستان على ما أعتقد، فيما عدا الصديقان العزيزان مراد والمفتي اللذان سبقاني وكانا يديران مكتب العلاقات العربية للحزب في سوريا، ويصدران من هناك صحيفة الحزب ( طريق الحرية) بطبعة فاخرة قياسا الى ما كنا نصدره في الجبال بإمكانياتنا المتواضعة جدا.
عندما إلتحقت بالحزب كان وضع مكتبه الأعلامي مزريا جدا، بسبب قلة الإمكانيات المادية والعدد المحدود من الكادر الإعلامي الذي كان معظمهم لا يمتلكون الخبرة الإعلامية الكافية. وكان هذا الحزب قد تعرض الى ضربة قوية جراء القتال الدامي بين الأحزاب الكردية الذي أشغلهم عن مقاتلة قوات النظام العراقي لعدة سنوات، ولكن مع إلتحاقي بصفوف الثورة كان ذلك القتال قد أشرف على نهايته،وبدأت المصالحة بين تلك الأحزاب بمبادرة من الإتحاد الوطني بزعامة الرئيس الحالي مام جلال.
كان مكتب الإعلام في الحزب يصدر جريدة يتيمة بحجم الفولسكاب وبأوقات متباعدة جدا.. وكانت الإذاعة متوقفة بسبب النقص في بعض الإجهزة والمعدات..وكانت لدى المكتب عدد محدود من الإجهزة البدائية والقديمة جدا لطبع الجريدة لا تتجاوز آلتين للطابعة باليد وجهاز إستنساخ الأوراق ( الرونيو) تستخدم لطبع كتب الإدارة والإجازات وغيرها.. بإختصار كان المكتب الإعلامي مشلولا تماما.
من حسن حظي أن وجودي في تلك الفترة هناك تزامن مع بدء عملية المصالحة بين أحزاب وقوى الثورة التي قادها الإتحاد الوطني الذي كان يسيطر بقوة على الساحتين السياسية والعسكرية في كردستان.وأتذكر أن أول وفد رسمي من الإتحاد وصل الى مقر المكتب السياسي لحزبنا في قرية ( كاولان ) الحدودية لإجراء المصالحة بحدود شهر أيار من عام 1986،وكان وفدا كبيرا من المكتب السياسي عقد إجتماعين فقط مع قيادة حزبنا حتى توصل الطرفان الى إتفاق شامل وكامل للمصالحة وطي صفحة القتال الأخوي بينهما، فالخلافات يبدو أنها لم تكن أساسية ما ساعد على سرعة التفاهم ونجاح الخطوة الأولى للمصالحة التي بدأت مع حزبنا، ثم تلتها خطوات مماثلة مع الأحزاب الأخرى لتتوج في النهاية بالمصالحة بين أكبر حزبين في كردستان هما الإتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني بزعامة الإستاذ مسعود بارزاني والتي أنهت بدورها صراعا بينهما دام لأكثر من عقدين.
كنتيجة لتلك الإتفاقات التي شملت الجوانب المالية طبعا، خصوصا وأن الإحزاب الكردية كانت تحصل على نسبة جيدة من التمويل من خلال الضرائب التي تأخذها من المهربين والتجار الذين ينشطون في تهريب السلع والمواد الإيرانية الى داخل العراق وبالعكس، أصبح لحزبنا حصة معتبرة من تلك المداخيل، وصار بإمكاننا تحديث مكتب الإعلام المركزي للحزب.عقدنا سلسلة من الإجتماعات مع مسؤول الإعلام في تلك الفترة الذي كان القيادي الراحل سعد عبدالله الذي قتل في تفجير إرهابي بمدينة أربيل بعيد الإضحى من عام 2004، وبحثنا سبل إعادة بناء مكتب الإعلام بكافة أقسامه.
في البداية تم توزيع المهام بين كوادر الإعلام، وتوليت أنا مسؤولية الإذاعة بقسميها الكردي والعربي، وكذلك أصبحت رئيسا لتحرير مجلة ( صوت البيشمركة) وكذلك رئيسا لمجلة( طريق الشباب) وكانتا تصدران بصورة شهرية، أما الصحيفة المركزية ( طريق الحرية) باللغة الكردية فقد ترأسها مسؤول الإعلام بنفسه. بعد الإجتماع ذهبت أنا وأحد الكوادر معي الى المدن الإيرانية لشراء عدد كبير من الأجهزة الصوتية والمسجلات وأجهزة الطباعة الحديثة، بما فيها الأجهزة الملونة التي كانت تدخل الى قسم الإعلام لأول مرة.. ورغم أن كل تلك الأجهزة كانت بدائية بدورها و لاتصلح كثيرا للإنتاج الصحفي والإذاعي، لكننا كنا فرحين بها لدرجة لا يمكن تصورها..فقد كانت طباعة الجريدة في السابق تتم بأجهزة قديمة، مما يجعلها رديئة جدا وصفحاتها مشوهة وملطخة في الغالب بالحبر الأسود. أما المسجلات التي كانت تستخدم في الإذاعة فقد كانت تلتقط أصوات الحيوانات السائبة( الأبقار والماشية والحمير) في المنطقة وتتداخل مع صوت المذيع لتبث مباشرة على الهواء لمدن وقرى كردستان.
بعد أن تمكننا من تأمين الكثير من المستلزمات الأولية لمعاودة نشاطاتنا الإعلامية، عقدنا إجتماعا آخر لتحديد برامج العمل.

إقترحت في الإجتماع أن نثبت مواعيد معينة غير قابلة للتغيير لأيام وفترات صدور الجرائد والمجلات.. وكنت أعتقد أن هذا الثبات في المواعيد من أهم مستلزمات نجاح العمل الصحفي، وهكذا تمت الموافقة على إصدار جريدة الحزب كل 15 يوم، والمجلات عند نهاية كل شهر.
وإقترحت تفريغ الكادر الإعلامي تماما وإعفائه من الحراسات والدوريات العسكرية والخروج في الكمائن الليلية، لأن أكثر هؤلاء كانوا يكتبون المقالات أيضا، وبينهم عدد من المذيعين في الإذاعة الذين يفترض أن يتدربوا على المقالات المكتوبة للبث.
وهناك حادثة طريفة وقعت معي في تلك الفترة أود أن أرويها للقاريء الكريم.

حيث كان من المعتاد أن يعين كل يوم شخص واحد كـ(خفر) للمقر الذي كان يضم جميع مكاتب الحزب السياسية والإعلامية والتنظيمية. ويكون هذا الشخص مسؤولا عن تنظيف المقر بكامله ومن ثم إعداد طعام الغداء والعشاء للمتواجدين فيه.. ومشكلتي أنا منذ أن ولدت أنني لا أعرف إعداد أي نوع من الطعام، ولا أعرف حتى المباديء الأولية لكيفية قطع اللحم..ناهيك عن إعداد الإكلات.. وأتذكر مرة أن زوجتي كانت خارج البيت وكنت وحيدا، وحاولت أن أسخن قدرا من الرز كانت زوجتي قد أعدتها لي ووضعتها في الثلاجة، ولكني بدلا من أن أسخنه، أحرقت الرز والباميا معا وسودت وجه القدر بالسخام، فأضطررت الى الخروج للمطعم لتناول العشاء.
وكانت هذه الخفارة تزعجني جدا، حاولت بما لدي من حظوة لدى بعض رفاقي في القيادة أن أستحصل على قرار عفو من رئيس الحزب والمكتب السياسي، بإعتباري سأنشغل بكتابة المقالات للإذاعة والجريدة والمجلة، بالإضافة الى تسجيل البرامج الإذاعية مما يجعلني أحمل عبأ أكثر من الآخرين الذين لم يكونوا يفعلون شيئا سوى نوبة حراسة ليلية لا تتجاوز ساعة واحدة، ولكنهم رفضوا ذلك بشكل قاطع، بإعتباري بيشمركة مثل الآخرين و لايجوز التهاون في مثل هذا الأمور لأن الجميع سواسية أمام الواجبات.. وكلما حان موعد خفارتي كنت أتوسل الى رفاقي في المكتب أحيانا، وأرشيهم أحيانا أخرى بكيلوات من الحلويات الإيرانية ليقوموا بدلا عني بإعداد الطعام، فيما ٍاقوم أنا بكنس وتنظيف المقر.. وهكذا كنت أتدبر حالي.. ولكن تم إكتشاف أمري ووشي بي لدى المكتب السياسي، فإمتنع الجميع عن معاونتي، فاضطررت الى أن أقوم بالطبخ مهما حصل.. وفعلا أخذت بعض الإرشادات من زميل لي وكتبتها على الورق وبدأت بإعداد طعام الغداء الذي كان الرز والمرق وفقا للتعليمات المكتوبة على الورق. ولكن بعد أن إنتهيت من الطبخ وقدمت أول أكلة في حياتي من صنع يدي، حتى رأيت الجميع ينفرون منها ويرمونها في براميل القمامة!!.. عندها إقتنع أعضاء القيادة بعدم صلاحيتي لهذا العمل فصدر قرار بإعفائي الذي كان يوازي عندي قرار إعفائي من عقوبة الإعدام في محكمة الثورة الصدامية؟!.وأخيرا أذعنت القيادة الى مقترحي بتعيين طباخ للمقر وإعفاء جميع البيشمركة هناك من إعداد وجبات الطعام.
بعد وصول تلك الإجهزة بدأنا تشغيل الإذاعة المركزية.. وكنت أنا ( بتاع كله ) في الإذاعة، لأنني كنت المدير والمخرج والمونتير والمذيع باللغتين الكردية والعربية وكاتب مقالاتها..
كان من مواصفات المذيع في الإذاعات الثورية أن يمتلك صوتا جهوريا يصرخ ويزبد ويرعد داخل الإستوديو!. وكان يفضل أن يكون صوته مسموعا في القرى المجاورة ليس عبر المذياع، بل من داخل ستوديو الإذاعة، وحاولت كثيرا أن أخفف من غلوائهم وأن أجعلهم يجلسون على الكرسي عند قراءاتهم لنشرات الأخبار، ولكني من دون جدوى، فهم إعتادو على قراءة النشرات واقفين، يمسكون الورق بيد، ويتوعدون باليد الأخرى،وهم يمتلئون حماسا ويضربون الطاولة أمامهم.
بعد شهر واحد من بدء الإذاعة بثها، طبعت أربعة آلاف نسخة من إستمارة إستبيان لإستطلاع آراء الناس حول مواد وبرامج ونوعية بث الإذاعة.. وكانت هذه مبادرة غير مسبوقة في صفوف الثورة تعجب قادة الحزب لهذه الخطوة الغربية عليهم. ولكني أقنعتهم أن هذا أمر مهم لكي نطور أدائنا ونحسن برامجنا وفقا لآراء ومطالب المستمعين. وبدأنا بتوزيع تلك الإستمارات التي طورناها لتشمل الجريدة والمجلات الصادرة عن مكتب الإعلام..وكانت كل إستمارة تضم 120 سؤالا لتقييم أقسام الإعلام ووضعت مربعات إزاء كل سؤال.. وكنا نكتفي بذكر المنطقة التي يتسلم فيها الشخص الإستمارة من دون ذكر اسمه أو قريته أو مدينته لضمان السرية خوفا من وقوع تلك الإستمارات بيد أجهزة النظام القمعية.
أما التوزيع فكان يتم عبر حمل تلك الإستمارات على ظهور البغال والحمير وإرسالها الى مقراتنا والقرى القريبة منها في أنحاء كردستان ضمن البريد الحزبي..وكانت النتائج باهرة، لأن الصورة أصبحت أكثر وضوحا أمامنا لتأمين وتحسين البث الإذاعي وتلبية ملاحظات الجمهور المتلقي لبرامجنا وجرائدنا.
وللحديث صلة..

[email protected]