في بداية السبعينات وبعد أن أحكمت سلطة البعث سيطرتها على مقدرات الدولة، عبر تغلغلها السريع في المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية تمهيدا لتحويل البلد الى دولة مركزية دكتاتورية، سرعان ما أوصدت أبواب حرية العمل أمام الصحافة الأهلية التي يمتد تاريخها الى بدايات القرن السابق، خصوصا الصحافة الساخرة والإنتقادية. وكنت كما أشرت في المقال السابق أعمل مع مجلة (المتفرج ) التي كانت مجلة فكاهية ساخرة.. وضيقت السلطة البعثية على جميع الصحف الأهلية والمستقلة من دون إستثناء وأبقت فقط على الصحافة الحزبية التي كانت تمول من قبل الدولة!. فبقيت مبتعدا عن عالم الصحافة لأكثر من عشر سنوات، لأنني لم أرد أن اكون بوقا من أبواق النظام الفاشي..


أتذكر أنه في تلك الفترة منعت السلطة حتى وصول المجلات الفنية اللبنانية التي كانت تستهوي عددا كبيرا من القراء، خصوصا من النساء، وإستعاضت عنها بإستيراد مجلات ثورية مثل الكفاع العربي والطليعة وغيرها من الصحف الثورية التي كانت معظمها تصدر عن منظمات فلسطينية بإعتبار قضية فلسطين أصبحت القضية المركزية لدولة البعث في العراق.


كان حزب البعث قد أعلن في تلك الفترة أنه يسير نحو تطبيق النظام الإشتراكي، لكن بطريقته الخاصة، ولكن تطبيق هذا النظام تسبب في إفقاد آلاف الصحفيين لوظائفهم، في الوقت الذي يفترض بالنظام الإشتراكي أن توفر فرص العمل لمواطنيه، ولكن بما أن الإشتراكية المطبقة في العراق كانت على الطريقة الخاصة، فقد شملتني الدولة بمكرماتها الإشتراكية وحولتني من مهنتي الصحفية الى وظيفة حكومية في سوق الخضار..


أرجو أن لا يستغرب القاريء عندما أقول أنني عينت بوظيفة حكومية في سوق الخضار، لأن الدولة الإشتراكية كانت بالفعل فتحت بعض الدكاكين في الأسواق تبيع الفواكه والخضر فيها، وكانت هناك ( مؤسسة عامة لتسويق الفواكه والخضر) تتولى الإشراف على بيعها في أسواق المحافظات، كما كانت هناك المنشأة العامة للأجهزة الدقيقة التي تبيع الدبابيس وأقلام الرصاص والممحاية للمواطنين الكرام، إضافة الى الشركة العامة للعدد والأدوات اليدوية التي تتخصص ببيع الكلابتين ومفكات البراغي والمسامير للمواطنين؟!.
في منتصف السبعينات ظهرت جريدة إسبوعية باسم ( الراصد) شكلت ظاهرة غريبة في وقتها، وكانت هذه الجريدة الوحيدة في العراق التي يفترض أنها غير حكومية، وكان الإقبال عليها شديدا حتى أن قرائها يحجزون نسخهم في المكتبة قبل عدة أيام من وصولها. ولم يكن اٌلإقبال على هذه الجريدة بسبب المواد المميزة التي تنشرها، بل كان هروبا وإسمئزازا من الإعلام الحكومي المسخ، فهذه الجريدة كانت تنشر مئات الإخبار والتقارير المفبركة التي كانت تنطلي على الكثيرين في وقتها، ولكن عندما أستذكر اليوم بعض تلك الأخبار أموت من الضحك على سذاجة قراء تلك الصحيفة، ولا أخلاقية المهنة لدى القائمين عليها..


فعلى سبيل المثال كانت الجريدة تنشر خبرا يقول، أن مواطنا في ولاية فلوريدا الأمريكية إبتلع دراجة هوائية كاملة من دون أن يصاب بأي عارض صحي؟؟!!. وكذلك تفبرك خبرا طريفا عن لص إقتحم مصرفا في سكوتلندا بمسدس دمى وسرق 100 ألف جنيه أسترليني؟؟!.


لم تكن في تلك الفترة تحت أيدينا لا أنترنيت ولا فضائيات ولا صحف أجنبية تصدر في نيويورك وتصلك في الصباح مثل هذه الأيام، رغم أن نسبة 80% من أخبار صحف هذه الأيام مسروقة بدورها من الأنترنيت والفضائيات الأجنبية، عليه لم يكن هناك بد من تصديق الإخبار الطريفة للجريدة من قبل القراء السذج.
وكان النظام العراقي يمول في فترتي نهاية السبعينات والثمانينات بعض الصحف العربية التي تصدر في الخارج مثل لندن وفرنسا، منها الوطن العربي والدستور والتضامن، بل أنه أصدر مجلة عراقية خالصة باسم (كل العرب) يرأس تحريرها أحد ضباط المخابرات العراقية كما كشفت هويته بعض المصادر فيما بعد.


في عام 1983 عينت في وظيفة ثقافية بمنظمة نقابية هي إتحاد عمال أربيل، وحصلت على فرصة لكتابة زاوية ساخرة باللغة الكردية في مجلة ( وعي العمال) التي كانت تصدر عن الإتحاد العام لنقابات العمال العراقي. ففي سنوات حكم البعث كانت المنظمات النقابية وبعض دوائر الدولة هي الوحيدة التي يسمح لها القانون حصرا بإصدار الصحف والمجلات، فكانت للعمال مجلة (وعي العمال) وللمنظمة الفلاحية مجلة( صوت الفلاح) ولإتحاد النساء مجلة (المرأة) وهناك مجلات أخرى للجيش ( حراس الوطن) و(الإذاعة والتلفزيون) لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون وغيرها من المجلات الصادرة عن المنظمات التي كانت جميعها حزبية مملوكة للدولة.


بعد أن حررت تلك الزاوية لعدة أشهر تراكمت مكافئاتي المادية في إدارة المجلة، وحاولت مثل زميلي الإستاذ طارق إبراهيم شريف مراسل مجلة ( الفكاهة) الذي تحدثت عنه في الحلقة السابقة أن أذهب الى بغداد لإستلام تلك المكافئات المتراكمة، وكان رئيس التحرير الجديد قد طلب لقائي.وكان هناك في إدارة المجلة شخص كردي أرمز اليه بحرف ( ش ) يشرف على الصفحتين الكرديتين اليتيمتين الملحقتين بالمجلة، وكان هذا يملأ الصفحتين بكلام ممجوج يكرسها دائما لتمجيد صدام حسين رأس النظام الدكتاتوري. وبعد أن تغير رئيس التحرير وجاء آخر لديه إمكانات صحفية جيدة، وأجرى بعض التغييرات في المجلة لتطويرها، طلب من مسؤول القسم الكردي أن يجري بدوره تغييرا في الصفحتين بالإستعانة ببعض الكتاب الكرد، ولكنه لم يحصل على سواي وأنا كنت مدفوعا بحاجتي الى تلك المكافئات المادية.


المهم سافرت الى بغداد لتسلم مكافئاتي المتراكمة التي كانت مبلغا محترما جدا، لكني وجدت السيد مسؤول الصفحة قد أكلها هنيئا مريئا من دون أن يتوقع في يوم من الأيام أنني سأحضر الى بغداد للحصول على مستحقاتي المالية. فوجيء بوجودي في المجلة ولاحظت عليه إرتباكا شديدا عرفت للحظتها أنه ناجم عن مستحقاتي المالية. وعندما سألته عن تلك المستحقات أبلغني بأن العمل في المجلة تطوعي ولا تصرف أية مكافئات مادية للكتاب، لكني عندما إحتجت على ذلك حاول إخراجي من المجلة بحجة رغبته في إشراكي بإجراء تحقيق صحفي داخل بغداد.


ولاحظت أنه يتحاشى أخذي الى أقسام المجلة أو رئيس التحرير رغم أنه طلب رؤيتي، فعرفت أنه إستلم مكافئاتي وأكلها، ولا يريد أن يعرف أحد من الزملاء أو رئيس التحرير بذلك خوفا من الفضيحة أوالفصل من الخدمة، لأن رئيس التحرير الجديد لم يكن يقبل منه ذلك.


وفي النهاية إذا كان الزميل طارق قد عاد من بغداد بعد أن أكل ( كبتين) على حساب رئيس تحرير مجلته لقاء المواد الصحفية التي أرسلها لهم، فأنا قد عدت بخفي حنين الى مدينتي، وذهبت دراهمي ودنانيري الى بطن السيد ( ش) الى غير رجعة.


ومن يدري قد يكون هناك اليوم الآلاف ممن هم على شاكلة زميلي (ش) المسؤول في القسم الكردي بالمجلة،فعالم الصحافة واسع وفسيح، وكل شيء متوقع مادام هناك من يصادرون جهد الآخرين أو يأكلون أموال الناس بالحرام..

شيرزاد شيخاني
[email protected]