توصف الصحافة بـ(مهنة البحث عن المتاعب)، وكان جديرا أن تحذف عبارة( البحث) لتبقى ( مهنة المتاعب) وحدها،لأن من يلج هذا العالم المزدحم بالأحداث ليس بالضرورة أن يكون باحثاعن المتاعب، بل المتاعب هي التي تطفر هنا وهناك بوجه الصحفي لتأخذ بخناقه حتى لو لم يبحث هو عنها..ولعل المآسي التي حلت بالعديد من الصحفيين في شتى أنحاء العالم حين أصبحوا مستهدفين من قبل الكثير من الأطراف المختلفة الصانعة للحدث الصحفي، تكفي للإستدلال على مدى المخاطر التي يتعرض لها العاملون في المجال الصحفي في مواقع تغطية الأحداث، رغم أن الصحفي مهمته هي بيان حقيقة هذه الإحداث، وليس صنع الرأي مثل الكاتب وهو المهنة الأكثر خطورة التي تجلب المصائب على أصحابه خصوصا في أوطاننا الشرق الأوسطية!..


خلال مسيرتي الطويلة في عالم الصحافة المليئة بالمفارقات والأحداث الطريفة منها والحزينة، وثقت ذاكرتي الكثير من تلك المفارقات والأحداث المخزونة في الذاكرة قد يكون آن الأوان لكشف بعضها للقاريء الكريم الذي أود منذ البداية أن ألفت عنايته بأن الهدف من كتابة هذه السلسلة من الخواطر والذكريات ليس تمجيد الذات، أو الزهو بالنفس، فقد نكون في غنى عن ذلك، لكن الكثير من المفارقات التي مررت بها قد يكون بيانها مفيدا للقاريء، خصوصا وأن التجربة التي عشتها طوال مسيرتي الصحفية واكبتها أحداث كبيرة في بلدي وهي تجربة لها مساس بالحياة السياسية في العراق حلوها ومرها..


باديء ذي بدء قد يكون غريبا على القاريء الكريم أن يعلم بأن كاتب هذه السطور أمضى 38 سنة في الصحافة من دون أن يدرس في أي معهد أو كلية متخصصة التي تخرج عادة الصحفيين أو العاملين في المجال الصحفي، مثل الكثير من البلدان الديمقراطية التي تعتبر الصحافة سلطتها الرابعة، ففيما عدا كلية الإعلام التي أنشأها النظام السابق والتي لم يستطع أي متخرج منها ممارسة تخصصه في المجال الإعلامي الذي كان حكرا على أبواق النظام والسائرين في ركابه،لم يكن هناك أي معهد متخصص بتخريج الصحفيين، وكان المتخرجون من تلك الكلية يعينون حصرا في قسم الإعلام بدوائر الحكومة من دون زجهم في المؤسسات الصحفية رغم ان جميعها كانت تحت سيطرة الدولة،وكانت مهمة المتخرجين في تلك الأقسام الحكومة محصورة أساسا بتمجيد النظام الدكتاتوري وتنظيم الإحتفالات الإعلامية في المناسبات الحزبية والوطنية.وقد يكون العراق هو من بين البلدان القلائل في العالم التي يلج العاملون مجال العمل الصحفي هواية، ثم إحترافا من دون دراسات تخصصية.


وبالنسبة لي فقد بدأت العمل الصحفي في سن الرابعة عشر، وتحديدا في 18/تموز/1969 بالعمل مع مجلة عراقية كانت تصدر في بغداد بعنوان ( المتفرج) وبذلك قد أكون أصغر مراسل صحفي في تاريخ الصحافة العراقية.


وكانت هذه المجلة فكاهية سياسية عامة تصدر قبل سنوات من وصول حزب البعث الى السلطة في إنقلاب تموز1968، وأبقتها السلطة في البداية لحين إستباب أمور الدولة بيدها، ثم سرعان ما أغلقتها مع بقية الصحف الأهلية وختمتها بالشمع الأحمر الى الأبد، لتدق بذلك آخر مسمار في نعش حرية الصحافة في العراق.


والأغرب من ذلك هو أنني عندما بدأت العمل كمراسل صحفي لتلك المجلة، كنت في صف الأول المتوسط ولم أكن قد تلقيت تعليم اللغة العربية سوى ثلاث سنوات في مرحلتي الإبتدائية والمتوسطة مجتمعة، وهو تعليم لم يتجاوز المباديء الأولية للقواعد والنصوص والقراءة العربية،ولكن كنت شغوفا منذ البداية بقراءة المجلات والجرائد التي كانت تصدر في تلك الفترة.وساعدني على ذلك مقهى أبي الذي فتحه داخل نادي الموظفين بمدينة أربيل، وكان هذا النادي هو الوحيد في فترتي الخمسينات والستينات ونصف أعوام السبعينات الذي يرتاده علية القوم ووجهاء المدينة وموظفي دوائرها الحكومية.. وكان بين هؤلاء الموظفين بعض العرب تم نقل وظائفهم الى أربيل وأصبحوا يرتادون النادي.


وكان في النادي مكتبة كبيرة ترصف فوق مناضدها كل يوم عشرات الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة أتذكر منها جريدة الجمهورية والثورة والمنار وإبن البلد وقرندل وفكاهة والمتفرج والمجلات اللبنانية الأسبوع العربي والصياد والنهار والمصرية الأهرام والهلال وغيرها، وكنت ألجأ الى تلك المكتبة كلما سنحت لي فرصة، فقد كنت شغوفا جدا بالقراءة، بالإضافة الى رغبتي الشديدة بالتحدث مع الموظفين العرب لتعلم اللغة منهم، وبذلك فقد إكتسبت ثقافتي بالإعتماد على النفس، وأغنيت لغتي العربية بالمطالعة المستمرة للكتب ودواوين الشعر.


المهم أنني كتبت أول رسالة لي الى رئاسة تحرير مجلة المتفرج البغدادية التي كانت تبحث عن مراسلين لها في محافظات العراق، وبعد الإختبار تمت الموافقة على تعييني بصفة مراسل أربيل.. وبدأت العمل بإرسال الإخبار واللقاءات مع مسؤولي دوائر المحافظة والفنانين والمسرحيين، ونشرت كلها في الأعداد اللاحقة من تلك المجلة وهي محفوظة في أرشيفي الخاص.


زاملني في تلك الفترة صديقي الأبدي الأستاذ طارق إبراهيم شريف الذي كان بدوره يعمل مراسلا لمجلة ( الفكاهة) التي كانت رديفة للمتفرج من حيث الأسلوب والنهج..كان هو أيضا مراسلها في أربيل.
لم أكن لصغر سني وحداثة عملي في الصحافة أعلم أن المواد التي أرسلها وتنشرها المجلة أستحق عليها أجورا أو مكافآت مادية. ولكن زميلي طارق الذي يكبرني بخمس سنوات عرف ذلك فشد الرحال في سفرة الى بغداد ليتسلم أجوره..وهذه طريفة من طرائف الصحافة في ذلك الزمن.


حيث روى لي طارق في مناسبة خاصة، أنه ذهب الى إدارة المجلة التي كانت في تلك الفترة في الحيدرخانة بشارع الرشيد، وهي منطقة معروفة في تلك الفترة تتجمع فيها مكاتب وإدارات الكثير من الجرائد والمجلات العراقية.


يقول طارق: بحثت عن عنوان إدارة المجلة، وبعد جهد جهيد وجدتها وكانت تقع في الطابق الثاني من إحدى البنايات وتطل على الشارع.دخلت المكتب الذي لم يكن يضم سوى عدد قليل من الغرف، وأرشدوني الى غرفة رئيس التحرير وصاحب المجلة الإستاذ حميد المحل. وكان هذا من رواد الصحافة العراقية في تلك الفترة.


يقول طارق: سلمت عليه وعرفته بنفسي، فرحب بي كثيرا وأجلسني، وسأل عن أحوالي وأحوال أربيل. ثم تحدثنا في العمل وسلمته بعض المواد الصحفية منها لقاءات وتحقيقات صحفية أجريتها في أربيل، ثم ناقشنا بعض المشاريع الصحفية التي كنت أنوي إنجازها لرفد المجلة بالمواد.وعندما حان وقت الحديث عن الأجور التي أستحقها عن موادي المنشورة، إعترف الرجل بأن لي مستحقات بذلك، لكنه في هذا الوقت أخرج رأسه من النافذة المطلة على الشارع الذي كانت عربة لبيع ( الكبة) تركن فيه، وصاح بالبائعquot; حجي فلان جيب له كبتين؟؟!!!.


أي أن أجور جميع المواد الصحفية التي أرسلها الزميل طارق وكلفته مبالغ محترمة بإرسالها عبر البريد المضمون الذي كانت كلفته أكبر من البريد العادي في ذلك الزمن،لم تكن تساوي عند رئيس تحرير المجلة سوى ثمن كبتين من عمو الحاج..


وهكذا عاد زميلي طارق من بغداد بخفي حنين؟؟!1...
وحدث معي ما هو أتعس من حظ زميلي طارق سأرويه في حلقة قادمة إن شاء الله.

شيرزاد شيخاني

[email protected]