رئيس مجلس النواب العراقي السيد محمود المشهداني، خرج عن المألوف والمعهود، وانتهك التقاليد العريقة المتبعة بين بغداد وانقرة، القائمة على التعاون المفرط في العداء المزمن للكرد العراقيين وقمعهم، تلك العلاقة التي استمرت لعقود طوبلة ولم تتغير الا في نيسان عام 2003، حيث تحولت من الطابع العنفي المعلن قبل سقوط النظام العراقي السابق، الى الصمت الغريب للنخبة السياسية العراقية حيال التهديدات التركية المتكررة لاقليم كردستان العراق، وعلى عكس الاخرين الذين اثروا الصمت حيال التهديدات باجتياح الاقليم، متأثرين بالثقافة العدائية االتقليدية بحق الكرد، وكأن الكرد ليسوا جزءاً لا يتجزء من العراق، والاقليم الكردي ليس ذلك الحبيب المسمى شمال العراق، لكن السيد المشهداني تميزعن النخبة السياسية الحاكمة في بغداد، وقال صراحة وبصوت عراقي اصيل quot;ان اي يد تمتد للتدخل في شؤون العراق ستقطع ان لم يكن اليوم فغداًquot;، جاءت تصريحات المشهداني عقب التصريحات التهديدية التركية باجتياح الاقليم، والتي بدورها جاءت عقب التصريحات الاخيرة لرئيس الاقليم مسعود البارزاني على شاشة قناة العربية.

الموقف التركي تجاه مايشهده الاقليم الكردي العراقي من تطورات، لا يدعو الى الاستغراب والتعجب، قياساً على الطريقة التركية في التعامل مع القضية الكردية داخل حدودها، رغم التحسن الطفيف الذي حصل مؤخراً تجاه حقوق الكرد، تلك التغيرات الظاهرية البحتة، جاءت في سياق العمليات التجميلة التي قامت بها السلطات التركية مؤخراً، لتحقيق المواصفات الخاصة الكفيلة بدخولها الى الاتحاد الاوربي، الا ان المنطق الطوراني القديم مازال سائدا ومهيمناً على العقلية التركية، وتركيا تحرص على اتباع السياسة القمعية القديمة نفسها، كحل للمعضلة الكردية.

في ظل الحقائق المستجدة على الوضع العراقي، كالمشاركة الكردية الفعالة في صنع القرار السياسي في العاصمة بغداد، وحقيقة وجود اقليم كردي دستوري يتمتع باستقلالية كبيرة عن المركز، بالاضافة لعدم استقرار الاوضاع في العراق، وضبابية المستقبل العراقي، وحقائق اخرى عديدة على الساحة الاقليمية والدولية، تثير الشهية لدى صناع القرار في انقرة للتدخل في شؤون الاقليم الكردي الوليد، للحد من سقف المطالب الكردية وتحجيمها قدر الامكان، مستغلة الوضع العراقي الهش، كما ان تركيا تدرك ان العراق يشهد حالة ولادة حرجة، ولن تقف موقف المتفرج دون ان يكون لها دور في تشكيل وصناعة العراق الجديد، وخاصة الاقليم الكردي وتركيبته النهائية.

في مقابل الصمت المريب للنخبة السياسية العراقيةquot;العربية طبعاًquot;، ومواقفها اللاوطنية تجاه التهديدات التركية باجتياح اقليم كردستان العراق، تبقى النخبة العسكرية التركية هي الاكثر تطرفاً حيال الاقليم الكردي، ولاتزال تتصرف بالعقلية الطورانية القديمة، بالرغم من المستجدات الهائلة التي حدثت خلال الاعوام الاخيرة، اقليمياً ودولياً، والعسكر التركي المتنفذ في الحياة السياسية التركية يتعامل مع الاقليم الكردي العراقي، وكأنه ولاية من ولاياتها المسحوقة بالفقر والجهل والتمييز العنصري فيquot;شرق الاناضولquot;، ويستخدم قضية حزب العمال الكردستاني التركي، والتواجد التركماني في كركوك، كورقة رابحة في صراعها مع الحكومة الاسلامية بقيادة رئيس الوزراء التركي الحالي رجب اردوغان، الحكومة المتميزة التي اثبتت خلال الخمس سنوات الماضية من حكمها، انها الافضل من بين سائر الحكومات المتعاقبة التي شهدتها تركيا، منذ الخمسينات من القرن الماضي، كونها حكومة تتمتع بالنزاهة، حيث تمكنت وللمرة الاولى في تاريخ تركيا باجتثاث الفساد والقضاء على التسيب والمحسوبية، التي تميزت بها جميع الحكومات التركية السابقة دون استثناء، وتم بالفعل تنظيف دوائر الدولة من ظاهرة ما تسمىquot;بالخرطومquot;، وهي كلمة عربية ماتزال الذاكرة العثمانية التركية تستخدمها في الاعلام التركي، وتطلق على طريقة رجال الدولة في تركيا، باستغلالهم لمناصبهم الحكومية في شطف الاموال العامة بطرق غير مشروعة، كما تمكنت الحكومة الاسلامية التركية التعامل بدهاء مع قضية الدخول التركي الى جنة الاتحاد الاوربي، وتمكنت كذلك كحكومة اسلامية ان تكون مثالاً نموذجيا للاسلام السياسي المعتدل، لذلك ليس من المستغرب ان تجد نفسها في موقع الخصم القوي للعسكر العلماني التركي، وان تحظى بشعبية واسعة لدرجة جعلتها تطمح في كرسي الرئاسة، اعلى المناصب في الدولة التركية.

بسقوط النظام العراقي السابق، فقدت تركيا احد اهم حلفائها في مسيرة عدائها للكرد، لذلك نجد من الطبيعي جداً ان تقوم تركيا بجهود اضافية لملئ ذلك الفراغ الكبير، على الرغم من كون التدخل التركي في الشأن الداخلي العراقي، والتصريحات المتكررة لجنرالات تركيا، التي وصلت الى حد التذكير بلواء موصل العثماني، لا يختلف اثنان على اعتبارها تصريحات متعجرفة وعدوانية، وتتميز بالنزعة القومية الكمالية بحق الكرد خاصة والعراقيين عموماً، وفي المقابل التصريحات الاخيرة لرئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني، لا شك انها محقة وعادلة على اساس مبدأ التعامل بالمثل، لكنها للاسف، تزامنت مع فترة حرجة يمر بها العسكر التركي، وجاءت في خضم الصراع الجاري على منصب رئاسة الجمهورية التركية، والايام القليلة القادمة وبالتحديد 25 من الشهر الحالي، هو اليوم الحاسم لتقديم اسم مرشح الرئاسة للبرلمان التركي، وفي منتصف الشهر المقبل ستعلن تركيا عن اسم رئيسها الجديد، واغلب الظن ان يكون رئيس الوزراء الحالي اردوغان، هو الرئيس المقبل لتركيا، وقد تردد مؤخرا اسم نسائي اسلامي كبديل لاردوغان، وان صح الخبر فهي تعتبر خطوة سياسية بالغة الدهاء من قبل الاسلاميين، للالتاف على رفض الجنرالات وكل من يدور في فلكهم، وبحصول الاسلاميين المتوقع على رئاسة الجمهورية، سواء كان شخص اردوغان او احداً اخر، تسقط اهم قلاع العسكر التركي، ويتم بذلك تدشين حقيقي للتراجع التدرجي للجنرالات وفقدانهم لنفوذهم، امام الحكومة الاسلامية المعتدلة في انقرة، وتكون تركيا قد دخلت منعطف جديد، بعودة الجنرالات الى قلاعهم العسكرية والحد من تدخلهم في الشأن السياسي التركي واتخاذ القرارات المصيرية.

التصريحات الاخيرة لرئيس اقليم كردستان، تشكل مادة دسمة للصراع التركي الداخلي، ومن المؤكد ان النخبة العسكرية التركية ستعمد الى استغلال تلك التصريحات، للمزاودة وكسب ود وتعاطف الشارع التركي، ومن غير المستبعد ان يلجأ الجيش التركي الى القيام بعمليات عسكرية واسعة في اقليم كردستان العراق، للحد من نفوذ خصومها من الاسلاميين وكسر شوكتهم، معتمدة على الهيجان القومي لدى الجمهور التركي، في المقابل الادارة الكردية مجبرة للدفاع عن الاقليم، ولامجال امامها لتبرير اي هزيمة امام الجيش التركي، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الادارة الكردية قادرة فعلا على تحمل مسؤلياتها في الدفاع عن المكتسبات التي حققها الاقليم خلال السنوات الماضية؟ وهل حضرت نفسها للتعامل مع التهديدات التركية اذا وقعت الواقعة؟


درويش محمى

كاتب سوري

[email protected]