كل ما نعرفه عن الطب أنه مهنة إنسانية تسعى لإطالة الحياة، أو قل المحافظة عليها، وحمايتها من أعدائها الأمراض. كما تسعى لتخفيف آلام الناس، وزرع الأمل في نفوس المصابين والقانطين، ولهذا يسمى العاملون في مهنة الطبابة ملائكة الرحمة.
وما نعرفه أيضا عن أصحاب هذه المهنة الإنسانية، أن كثير منهم يغادرون بلدانهم، فرادى وجماعات، ويضحون بأوقاتهم، وأموالهم، وحياتهم أيضا، لمساعدة غيرهم، من ضحايا الحروب، وضحايا أمراض الفقر وسوء التغذية.
وما نعرفه أيضا عن بعضهم، وهو ما نعيبه ونكرهه فيهم، أن نفرا من هؤلاء الأطباء يخونون مهنتهم، وقسَمَهم، والأمانة التي ائتمنوا عليها، فيعبثون بمرضاهم، ويستغلون ضعفهم، وثقتهم بأطبائهم، فيتلاعبون بهم، ويسرقون أموالهم. ويسرقون أحيانا- دون وازع من دين أو ضمير- أعضاءهم.
لكن ما لم نعرفه من قبل أبدا، أن يكون أبناء هذه المهنة، صنّاعا للموت، أعداء للحياة، قتلة لمضيفيهم من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، عن سابق تصور وتصميم وتخطيط، ورغبة جنونية بل حيوانية، في زرع الدمار، وسفك الدماء.
إن ما حدث في لندن ومطار غلاسكو منذ يومين، غريب عجيب كريه بكل المقاييس والأديان التي تقدس الحياة، وتحترم إنسانية الإنسان. فلأول مرة بتاريخ الطب والعلاج والدواء، يحاول سبعة أطباء أن يتحولوا إلى ألغام متفجرة، وقنابل موقوتة، تزرع الخراب، وتقتل الحياة.
كنا نظن أن أدوات الإرهاب أناس من ذوي الثقافة الأحادية، أو جهلة مكبوتين مرضى، فقدوا الأمل، وكرهوا الناس، فعشقوا الموت، أو استعجلوه لغاية من الغايات. أما وإن من حاولوا الانتحار وقتل الناس، أطباء متفوقون في دراستهم، مرتاحون في حياتهم، فذاك محير يستدعي إعادة النظر في الدراسات والتقويمات والاستنتاجات.
لم يفكر هؤلاء النفر بغيرهم من الأطباء العرب والمسلمين العاملين أو الراغبين بالعمل في الغرب، أو في إتمام دراستهم هناك. ولم يفكروا فيما ستؤول إليه صورة أبناء جلدتهم ودينهم من ممارسي مهنتهم في تلك البلاد، التي وإن كرهها بعضنا، فقد أحبها، لإنسانية أهلها، وأحب الإقامة والعمل فيها، لعدالة قوانينها، وحسن نظامهما، الكثيرون من أبناء جلدتنا وبلداننا.
لعل المنظمات التي سخرت هؤلاء الأطباء ودفعهم في طريق القتل والانتحار، حسبت أن مهنتهم الإنسانية تسهل لهم مهامهم، وتبعد عنهم الأنظار والشبهات، أو لعلها ظنت أنهم بحكم تعليمهم العالي سيكونون أقدر على تنفيذ تلك المهام. لكن تلك المنظمات قد قتلتهم، وضحت بهم، ويتمت أطفالهم، ولوعت آباءهم وأمهاتهم، سواء أكانوا نجحوا، أم فشلوا كما حدث، في تنفيذ العمليات.
ولا بد أيضا أن أسر هؤلاء الأطباء تعتصرهم الحرقة والألم والحسرة وخيبة الأمل، خاصة وأنهم تمنوا لأبنائهم أسرا سعيدة، وأطفالا، ومكانا مرموقا بين أقربائهم ومعارفهم ومجتمعهم، وحظا وافرا من العيش الرغيد والطمأنينة وراحة البال، فلم يبخلوا في طريقهم، بل من المؤكد أنهم قد بذلوا كل غال ونفيس لتعليمهم، ونجاحهم. فمن يلوم هؤلاء الأهل وقد حدث ما حدث؟ هل يلومون القدر، أم الأقران، أم تجارة الإرهاب؟
ويبدو لنا أن صناعة الموت عقيدة من عقائد الشيطان، لها نظرياتها ومرتكزاتها ومغرياتها، لكنها عقيدة مهما ادعت، فإنها تكره الله والإنسان، وتكره الحياة، وتكره الجمال والأزهار والأطفال.

[email protected]