quot;لا أحب التسامح... ولكنني لا أجد أفضل منهquot; (غاندي)
تلك هي العبارة التي تصدرت مقال الأستاذة/ مروة كريدية بعنوان quot;فلسفة التسامح... والفكر الكونيquot;، المنشور بإيلاف 14/8/2007، ورغم إعجاب الكاتبة الواضح بالعبارة، بدليل اختيارها لتتصدر مقالها، إلا أن الملاحظ أن المقال جاء بعدها مناقضاً تماماً لما تشير إليه بوضوح لا يقبل اللبس فيما أتصور.
مناط الخلاف ليس بالطبع دقة الاستناد أو الاستنتاج من عبارة أياً كان قائلها، وإنما هو النهج الذي ذهبت إليه الكاتبة، ويذهب إليه الكثيرون، في معرض ترويجهم لقيم إنسانية سامية، يستشعرون حاجتنا الملحة لتفعيلها، أو بالأحرى استزراعها في منطقتنا المضروبة بالتعصب والعداء، والذي قلنا في أكثر من مناسبة أنه قد استفحل إلى حد تعدى حدود العداء للآخر، ليمتد إلى العداء للذات، والذي من أبسط وأوضح معالمه ظاهرة الانتحاريين أو الاستشهاديين (كما نحب أن نسميهم)، والتي هي اختراع شرق أوسطي بامتياز.
النية الحسنة أو التوجه السامي نحو الترويج للتسامح، الذي لا نكاد في منطقتنا نحتاج لسواه، لا يبرر فقد الطريق الصحيح إليه، ونعني بالطريق الصحيح التأصيل النظري الحقيقي لأصله ومبرراته، ومن ثم ما يترتب عليه من نتائج، ورغم أن الكاتبة في بداية المقال قاربت الأمر مقاربة صحيحة حين قالت: quot;ولعل أحد أهم مكونات تأسيس دولة حديثة، في مرحلة ما بعد الحروب الأهلية، هو تجاوز تلك الصراعات، وبناء مساحة من التعاون، مبنية على مسامحة حقيقة بين الأطراف، فالصفح يُعد البوابة الرئيسية التي لا بد من المرور بها لبناء ديموقراطية فعليةquot;، إذ اعتبرت الصفح ضرورة عملية لتحقيق التقدم، إلا أنها عادت في معرض التأصيل للتسامح للقفز إلى الميتافيزيقا، وكأن الضرورة العملية في حد ذاتها غير كافية لتحبيذ التسامح والحض عليه، وربما تراها كما البعض مستهجنة، فما جاء بالمقال (كنموذج لمثل هذا المنحى) بإرجاع التسامح إلى أن:
quot; الإقرار بالتنوع نابع من سموّ الروح ومكون أساسي في هوية الإنسان الكوني، الذي يجعل القلب كيانا قادرا على التنوع في الصور واحتواءها في الوقت نفسه.quot;
لنا على هذا المنحى من التفكير ثلاثة اعتراضات أساسية، الأول أنه بمثابة قطع لقيمة التسامح من جذورها الحقيقية، لإسنادها إلى مرجعية افتراضية، تستعصي على التحديد، وتمتنع على أي محاولة للفهم بعيداً الانسياق بالورع والتقوى لمقولات وعظية طوباوية، والثاني أن الإسناد للروح والقلب وما شابه، يدفع بالتسامح إلى منطقة رمال ناعمة، لا مجال فيها للتدبر والقياس والمراجعة، وهناك سيستوي التسامح مع قيم أخرى سيفرضها أصحاب الدوجما الملتحفة بمسوح الروح والقلب ذاتها، ومنها ما يضاد التسامح أو ينسفه من أساسه، والثالث هو ما ورد بالمقال اتساقاً مع محوره الأساسي، وفيه تم تصوير التسامح كنتيجة مترتبة على السمو الازدهار الحضاري، كأن يقول المقال: quot;إن هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الإنسان الكوني.quot;، وهو ما يعتبر في نظر أصحاب هذا التصور من قبيل الترويج والترجيح لفكرة التسامح، مؤيدين (حسب تصورهم) بالترافق المرصود بين شيوع ثقافة التسامح وتقدم الأمم وازدهارها، مفترضين أنه نتيجة للسمو الأخلاقي، متجاهلين أنه سبب أولي وأساسي لما يرصدونه من ازدهار، وهو ما تم إثباته في بداية المقال، ثم العدول بعد ذلك عنه.
الأمر في نظرنا سيكون مختلفاً تماماً، لو نظرنا له بعيداً عن التحليق في سماوات الميتافيزيقا والروح والقلوب وما شابه، لننظر إلى الأرض ومن عليها من بشر من لحم ودم، يتصارعون مع الطبيعة، ويتدافعون فيما بينهم، فتسيل الدماء على مذبح الصراع البشري/ البشري، بأكثر مما ينفق البشر من جهد ودماء في الصراع الأزلي مع قوى الطبيعة العصية.
ورد التسامح في المقالة محل النظر بمعنيين، معنى الصفح forgiveness، ومعنى السماحية tolerance، والخلط بينهما غير جائز، لاختلاف طبيعة كل مفهوم، واختلاف أساسه النظري، فالسماحية tolerance تقوم على أساس مادي علمي بحت، مرده نسبية ما نعتبره حقائق مطلقة، تلك النسبية التي تفرضها تباينات الظروف أو السياق، في لحظة زمانية محددة لكيانات ديموجغرافية متعددة، وما يفرضه تطور الحضارة ومعها الإنسان مع الزمن، لكيان ديموغرافي محدد، كما تنشأ السماحية tolerance عن ما توصل إليه الإنسان وأثبته العلم ذاته، من أن كل ما نتوصل إليه من علم مشكوك فيه، وغير كامل الصحة أو تام الدقة، وأننا ينبغي دائماً أن نخضع معلوماتنا للشك والتجريب والتحسين المستمر، بما يعني أن افتقاد السماحية هو الطريق المعبد للتخلف والتدهور الحضاري، ونلحظ هنا أن السماحية سبب مادي للتقدم، وليس قيمة روحية مترافقة أو ناتجة عن التقدم والازدهار.
أما بالنسبة للتسامح بمعنى الصفح forgiveness فأمر آخر، المشكلة الحقيقية التي تحسم أو توجب التسامح من عدمه، والتي ترتبط هي الأخرى بإشكالية أرضية مادية تماماً، هي إحساس وموقف الإنسان من الزمن، فإذا ما فشل إنسان أو شعب في الارتباط باللحظة الراهنة، والفصل الحاسم نفسياً وفكرياً بينها وبين الماضي، كلحظات استهلكت ولن تكون موجودة بعد، إذا فشل الإنسان في إدراك حقيقة تفرد اللحظة وقيمتها الثمينة، باعتبارها هي وجوده ذاته، وفي إدراك أن فقده لها بإساءة التصرف فيها، هو بمثابة انتحار أو تدمير للذات، هنا سنجد هذا الإنسان أو هذه الأمة تنزلق إلى هاوية الماضي، منجذبة بغريزة الغضب أو الانفعال، كذا بتأثير الذاكرة، التي تتحول في هذه الحالة من قدرة إيجابية تعين الإنسان على مواجهة اللحظة، مستعيناً بما احتوته ذاكرته من معارف وخبرات، تتحول الذاكرة إلى خاصية سلبية، حين تفرض رؤاها المختزنة، ليعيش فيها الإنسان كعالم افتراضي موهوم، يتصوره حقيقة حالة في الحاضر أيضاً، ولا يتصور لنفسه مهرباً منها في المستقبل، فيغرق الإنسان في الماضي، يحارب معاركة ويحيا بأفكاره وقيمه، فيسقط من الحاضر إلى قاع التاريخ.
الإمساك باللحظة يجعل الإنسان حراً في الحركة باتجاه تحقيق مصالحة، وسيعتمد قراره بالحركة على قياس وتقييم العناصر والظروف الحاضرة quot;هنا والآنquot;، ولا يمنع هذا بالطبع استفادته من خبراته المتراكمة في الذاكرة، بعد أن يدخل عليها ما يلزم من تعديلات لتناسب الظروف، التي تكون في الأغلب مستجدة ومختلفة، بهذا يتقدم الإنسان أو المجتمع من أمس إلى اليوم، ويكون اليوم دائماً أفضل، بقدر ما اكتسبه الإنسان من خبرات وقدرات لم تكن متوفرة له في الماضي، وبذلك يكون الصفح forgiveness ضرورة عملية للهروب من أسر الأمس، للتفرغ لتدبير أمور اليوم بالصورة المثلى، ولا شأن لها بالروح والقلب، أو بأي مما هو مفارق لعالمنا المادي الموضوعي.
إذا عدنا الآن لعبارة غاندي، التي تتصدر هذا المقال والمقال محل النظر، وأعدنا التأمل فيها، سنجد الرجل الذي هو المثال الإنساني الأعظم للتسامح، يدعي جدلاً أنه لا يحب التسامح، والمعني أنه يبتعد به عن الأساس الميتافيزيقي المفارق، وحين يقول أنه لم يجد أفضل منه، فهو يتحدث عن فائدته العملية المحضة، وهذا هو كل ما أردنا قوله.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية