سألني أحد الأصدقاء الصحفيين، كيف نتعامل مع استراتيجية الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب المعادية للعرب؟ قلت له: من وجهة نظري، قبل أن نحاول صياغة استراتيجية للتعامل مع إدارة ترامب، علينا أن ندرك أن هذه الاستراتيجية يفترض أنها رُسمت بالفعل منذ انتخاب الرئيس الجديد في نوفمبر 2016 وليس الآن، لأن توجهات ترامب ليست مفاجئة لنا، بل معلنة وواضحة طيلة أشهر الحملة الانتخابية، ولم يطرأ عليها تغيير في معظم الملفات. ولكن بشكل عام لابد من فهم أسس ومنطلقات التوجهات الترامبيةـ إن صح التعبير ـ سواء تجاه القضايا العربية أو غيرها من القضايا الإقليمية والدولية، من أجل التحرك وفق أسس سليمة ودقيقة تضمن الحفاظ على مصالح الدول والشعوب الخليجية والعربية. 

وهنا أشير إلى نقاط عدة ربما تمثل ركائز لهذه التوجهات أولها أن هناك تغيير ما سيحدث في السياسة الخارجية الأمريكية وهو تغيير حتمي يرتبط بتوجهات الرئيس الجديد وسياساته ومواقفه، فترامب مختلف تماماً عن سلفه باراك أوباما، والاختلاف هنا على مستويين أحدهما يتعلق بالجانب الشخصي، فكلاهما له خلفية ومرجعية فكرية ومهنية مختلفة تماماً عن الآخر، والآخر يرتبط بالمرجعية السياسية، وهنا يبرز الاختلاف التقليدي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في التعاطي مع مختلف الملفات. 

والأمر الثاني أن التغييرات المرتقبة في السياسة الخارجية ستتمحور غالباً حول التكتيكات وليس الاستراتيجيات، فالمصالح الاستراتيجية الأمريكية سواء مع الدول العربية أو العالم لن تتغير بين عشية وضحاها، والسياسة الخارجية الامريكية لا يرسمها الرئيس بمفرده بل هناك مؤسسات سيادية أخرى تشاركه صناعة القرار، فضلاً عن أن الرئيس مقيد في الأخير بمبادئ الدستور الأمريكي، سواء في ما يتعلق بالفصل بين السلطات وحدود نفوذ البيت الأبيض، أو في ما يتصل بالمبادئ التي تأسست بموجبها الولايات المتحدة، وهذا الأمر ينطبق بالدرجة الأساسية على توجهاته الداخلية بشأن الإسلام وغيره. 

والأمر الثالث أن ترامب يؤمن بفكرة "الصفقات" وهي بخلاف الصفقات السياسية المتعارف عليهاً سياسياً، ولكنها صفقات تنتمي إلى عالم المال والأعمال، الذي ينتمي إليه ترامب وقضى عمره كله وسط أقطابه، فهو على سبيل المثال، عندما يتحدث عن توفير الحماية الأمنية لدول مجلس التعاون، لا يتناول ذلك انطلاقاً من الشراكة الاستراتيجية القائمة بين هذه الدول والولايات المتحدة، بل يتحدث بصراحة لافتة عن ضرورة تحمل هذه الدول الأعباء المادية لهذه الحماية. وهذا أمر معتاد وليس طارئ، فميزانيات دول المجلس قد تحملت بالفعل الأعباء المادية المترتبة على أي تدخل عسكري امريكي لحماية الأمن الخليجي طيلة السنوات والعقود الفائتة، ولكن ترامب يتحدث عن حسابات التكلفة والعائد بشكل اقتصادي تجاري بحت وليس استراتيجي، وهنا فقط يكمن الفارق، برأيي، بينه وبين من سبقوه، ولكن التكلفة هي بالتأكيد قائمة وتدخل ضمن حسابات الشراكة الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة، ولكن الجديد أن ترامب يتحدث عنها ،كما قلت، بصراحة غير مسبوقة تفاجئ، وربما تصدم، غير المطلعين على هذا الملف. 

الأمر الرابع أن العلاقات الأمريكية مع الدول العربية لن تكون كما سبق، وهذا حال العالم أجمع وليس العرب فقط، فترامب وضع "أمريكا أولاً" وليس هناك استثناءات من ذلك، فالعلاقات السعودية ـ الأمريكية لن تكون كما سبق، وكذلك المصرية ـ الأمريكية، فالبعض سيحظى بعلاقات أقوى والبعض سيعاني العكس، وفقا لحسابات البيت الأبيض الجديدة. ولكن ذلك كله سيدور في نطاق الاستراتيجية الأمريكية التي ترسمها مؤسسات صنع القرار الأمريكي كله وليس البيت الأبيض فقط، بمعنى أن ما سيحدث لاحقاً سيظل مرهون بسقف التوجهات الاستراتيجية الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط، وهي توجهات ليست جديدة، وعلينا أن نسترجع الزمن قليلاً، لندرك أن إدارة أوباما قد بدأت في سنواتها الأخيرة مسيرة تقليص الدور الأمريكي في المنطقة، وهي من أطلقت استراتيجية "آسيا أولا" التي يتخذها ترامب الآن نهجاً رئيسياً له، فالتركيز الأمريكي كله ينحو باتجاه شرق آسيا لمواجهة الصعود الصيني المتنامي، وهذا الأمر بدأ في عهد أوباما من خلال تلك لاستراتيجية، التي تستهدف آسياً على حساب أولويات أخرى، وبالتالي لا مجال واقعياً للقول بأن ترامب يتبنى نهجاً جديداً، فالتغيير، كما قلت، على المستوى التكتيكي ومن خلال آليات التنفيذ والتعبير عن هذا النهج، وهذا أمر بديهي، خصوصا في حالة رئيس استثنائي مثل ترامب لابد وأن يضفي بصمته الذاتية على السياسة الخارجية الأمريكية.

والأهم، كما قلت لصديقي، أن علينا، كعرب، أن نستعد لأربع سنوات عجاف على الأقل، فالولايات المتحدة لن تبسط حمايتها بالشكل المعتاد على أي دولة عربية، وإن فعلت فلابد من مقابل ودفع التكلفة بشكل واضح وصريح، ومن ثم فلابد من التعايش مع الواقع الأمريكي الجديد، لاسيما أنه يفرز تبعات استراتيجية بالغة الخطورة، منها فتح المجال لدول أخرى مثل إيران وتركيا وإسرائيل للتمدد استراتيجياً وملء الفراغ الحاصل في المنطقة في ظل انحسار دور القوى العربية التقليدية وانكفائها على الذات، أو معاناتها بعضها الآخر من الفوضى والاضطرابات الداخلية. 

ودائما، كما هو معتاد، هناك رابحون وخاسرون مع أي إدارة أمريكية جديدة، ولكن تبقى الثوابت في الاستراتيجية الأمريكية، وعلينا ان نعمل على ألا نكون في مربع الخاسرين قدر الإمكان، وعلينا أن ندرك جيداً أن تصريحات الرئيس ترامب لا تعبر عن مبادئ جديدة، وعلينا أن نتذكر كيف استهل أوباما ولايته الرئاسية الأولى عام 2008 بخطاب تصالحي تاريخي في القاهرة، ثم ننظر كيف انتهي بسلسلة من الخيبات والاخفاقات. ومن ثم الاستراتيجية العربية المشتركة من الصعب الحديث عنها الآن في ظل واقع العمل الجماعي العربي البائس، ولكن من الممكن بلورة مشتركات بين الدول المؤثرة عربياً الآن مثل مصر والسعودية والامارات وقطر والمغرب والجزائر وتونس، لحماية ما تبقى من المصالح العربية، وهذا يتطلب تجسير الخلافات وردم الفجوات القائمة في المواقف بين مصر والسعودية على سبيل المثال، وتسوية أي تباينات في وجهات النظر على أسس حقيقية وليس تجاوزها أو القفز عليها.

والإشكالية الأخطر، أو الأصعب، كما لم اذكرها لصديقي بعد أن طال بنا النقاش، أن ترامب ربما ينظر للعرب والمسلمين جميعاً على انهم أصحاب أيديولوجية دينية تغذي العنف، ولا يستطيع الفصل بين الإسلام والإرهاب، وهنا فقط ستكمن المشكلة مع العرب والمسلمين، ومهما قلنا في ذلك فالرجل سيأخذ وقتاً حتى يتفهم ما يدور من حوله، ويقتنع أن الإرهاب ليس الوجه الآخر للإسلام، وهذا يعتمد على تطورات الأحداث في الداخل الأمريكي والعالم من حولنا، وأيضاً كيف ستتصرف تنظيمات الإرهاب وردة الفعل على سياسات ترامب وغير ذلك، والأهم كيف نتصرف نحن، كشعوب ودول عربية وإسلامية، وكيف سنتعامل مع ما يعتبره البعض عداء ترامب للإسلام وهل نستسلم لذلك أم سنحاول بناء جسور جديدة وقنوات اتصال حقيقية للتواصل الحضاري والإنساني مع رجل اثق شخصياً أنه يعرف الإسلام جيداً وسبق له التعامل مع مسلمين كثر، ولكنه الآن في محرب السياسة ويلعب أدواتها وعلينا أن نلاعبه بنفسه الأدوات لا بأدوات العنف والقتل والحروب.