يقال أن أحد الخلفاء عندما اصبح خليفة، اراد ان يذهب لممارسة عمل الخياطة مثلما كان يعمل قبل ان يصبح خليفة، فقال له الناس: لم يعد يحق لك ان تمارس التجارة والخلافة في وقت واحد، فأما ان تكون تاجرا او حاكما!واضطر الخليفة ان يتخلى عن ممارسة الخياطة كعمل تجاري صغير. وكدليل على ان الانسان ولكي يكون ناجحا في عمله القيادي السياسي لايمكن ان يكون تاجرا وسياسيا في نفس الوقت. فلربما يستغل موقعه السياسي لدعم مصالحه التجارية، أو قد يستغل وضعه التجاري لدعم مواقفه السياسية : وكلا الطريقتين ستضر بأحد العملين وتقود للفساد السياسي والتجاري معا، ويكون الضحية دائما هو الناس الذين ينتمي اليهم السياسي التاجر.

صحيح ان السياسة وكما يطلقون عليها : اللعبة القذرة، لأنها تهدف الى استخدام الوسائل الميكافيلية لتحقيق غايات ومصالح، تنجح كثيرا عندما تكون الغايات لتحقيق مصالح شعوب ودول مهما كانت قذارة الوسائل، لكنها تفشل وتقود الى كوارث عندما تكون غاياتها لخدمة مصالح شخصية او اهداف ايديلوجية. ولنا في انهيار دولة عظمى كالاتحاد السوفيتي خير مثال لسقوط الدولة الايديلوجية، لكن سقوط الدول عندما تقودها المنافع الشخصية اخطر من سقوط الاتحاد السوفيتي.
وامريكا كدولة عظمى تتحكم في مفاصل العالم منذ مايقارب القرن، بدأت تعاني من مشكلات عميقة منذ ان بدأ الحكام التجار يحكمونها بدءا من بوش الابن وحتى ظهور التاجر ترامب.
والذين يراهنون على نجاح الرئيس ترامب لقيادة امريكا الأقوى كما يدعي، كالذين يراهنون على فوز جواد محمل بالأثقال في مضمار سباق خيول تركض بسرعة الريح، وينطبق عليهم القول الشعبي : يا قانص بالحديَّة روّح بلا صيد!
لأن المعروف ان الانسان يقنص بالصقر وليس بالحِدأة، ويكون الحاكم التاجر كالحِدأة... غير قادر على القنص السياسي الماهر.
الرئيس ترامب دغدغ مشاعر ملايين الامريكان في حملته الانتخابية. أولئك الذين بدأوا يخافون على بلدهم ان يحل به ماحل بمنافسه الاتحاد السوفيتي، لكن الفرق بين امريكا والاتحاد السوفيتي : ان امريكا بلد مؤسسات ودستور عظيم بني على قيم عظيمة اهمها الحرية والنظام الديموقراطي، وكلما مرت امريكا بأزمة سياسية او اقتصادية تلجأ الى دستورها الديناميكي فينقذها من السقوط ويعيد توازنها. وعادة ما نجد ان اخطر الازمات تداهمها بسبب النزعة الميكافيلية في السياسة الخارجية عندما تبتعد مسافات اكبر عن القيم العظيمة التي بسببها اصبحت امريكا اعظم امبراطورية في التاريخ. وعندما نتحدث باعجاب عن قيم امريكا فذلك لايعني اننا نضفي عليها طابع الكمال بقدر ما نتحدث عن نسبية عظمة القيم مقارنة بمثيلاتها في العالم، ونعتقد انه كسنة كونية كلما اتت قوة تمثلها قيم اعظم فانها ستكون الرائدة مهما كانت النواقص واخطاء السياسة.

وسيظل الافضل نسبيا في قيمه : هو الاجدر على قيادة العالم كدعم الهي ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) وهي حقيقة سواء اعجبت البعض ام لم تعجبهم. ولا يمكن لمن لايملك قيما تقدس الحرية وحقوق الانسان وآدميته : ان يصبح قوة قائدة حتى وان كان قوة مؤثرة.

هذا التميز القيمي للشعب الامريكي : هو الذي مايزال يمنع امريكا من السقوط والانهيار، والذي ينتشلها من ازماتها كلما اغراها جشع المصالح وحب السيطرة وانحرفت كثيرا عن مسار قيمها.

ومن يعتقد ان الديموقراطيين ممثلين بأوباما.. كانوا يمثلون حالة ضعف امريكية... فإنه يفلسف السياسة من منظوره الفكري دون وعي بعمق المشكلات المناهضة للقيم الأخلاقية عند دولة تأسس دستورها على قيم عظيمة.
تلك المشكلات التي تورطت فيها امريكا في العقود القريبة الماضية، وكذلك هناك من يفسر الامور حسب رؤاه وهواه منطلقا في حكمه ورأيه من ثقافة أحادية لا تمنح العقل فرصة التأمل عبر عدة زوايا مختلفة.
السياسة الامريكية وصلت الى درجة عالية السخونة من الصراع بين وجهتي نظر : تؤمنان في وجود أزمة تنذر بمخاطر قد تحد من قوة الدولة العظمى أو تضعفها فتسلبها دورها القيادي.

وكان اوباما بعقلية الرئيس المثقف المحامي المتعلم تعليما ممتازا، والقادم من تجربة انسانية مختلفة وكممثل لحزب ديموقراطي اكثر تقاربا مع القيم الامريكية: يرى ان امريكا بحاجة الى التوازن بين القيم والمصالح.. وان تكون العودة للقيم اكثر من نزعة السقوط في ميكافيلية المصالح. ويؤمن ان امريكا لم تعد قادرة ان تكون القطب الأوحد في عصر بروز قوى عالمية تستطيع ان تمثل توازنا مع امريكا وهو توازن يخدم امريكا افضل من ان يبقيها قوة وحيدة متسلطة قد يغريها ذلك التسلط فتستبد وتسقط بسبب حتمية قانون التعادلية كما يفلسفه المفكر العربي العظيم توفيق الحكيم في كتابه التعادلية الذي قدمه الدكتور العقلاني والعروبي العظيم الآخر زكي نجيب محمود. فحقق اوباما نموا اقتصاديا لبلده وجنبها الغرق في الحروب برغم ان سياسته اعتمدت خطة سياسية ذكية جدا وهي الاعتماد على الوكلاء كالناتو وغيرهم في القيام بتنفيذ اهداف سياسية تخدم المصالح الامريكية والاهداف الاستراتيجية دون ان تتورط امريكا بجيوشها مثلما كانت تفعل في السابق.

وفي الداخل الامريكي شعر الشعب باطمئنان لم يشعر به من قبل، اما وجهة النظر الاخرى والتي يمثلها الحزب الجمهوري : فكانت تدعو دائما الى فرض الهيبة الامريكية مهما كلف الامر من اثارة الصراعات والحروب، وبرغم ان ترامب اعلن في حملته الانتخابية انه سينكفيء الى الداخل ويبني امريكا الأقوى، الا ان عقلية التاجر غلبت عليه فنسي مانادى به كسياسي محتمل وبدأ يفكر بعقل التاجر واثبت انه لا يملك حكمة السياسي المحنك كرئيس لأعظم بلد في العالم. وقد شاهدت بعض الامريكان وخاصة الذين يؤيدونه يتذكرون مرحلة اوباما ويحنون اليها.
جاء ترامب ليخلق مخاوفا استطاع بها ان ينفذ الى عقول الناس ووجدانهم ويخلق من وجود المهاجرين شبحا يهدد مستقبل الشعب الامريكي، وبرغم ان الشعب الامريكي في مجمله شعب مهاجر الا ان من استوطنت جذورهم منذ قرون اصبحوا يشعرون بالخطر على بلدهم بسبب كثرة المجنسين والمهاجرين الذين هاجروا من بلدانهم القامعة عشقا للعيش في بلد الحرية.

وكان الشعب على حق ان يقلق على مستقبل اجياله... وكذلك استغل الرئيس ترامب عقدة الارهاب الاسلاموي كما يصفونه ليخلق قلقا اخر لشعبه، فتغيرت قابلية الشعب للتعايش وعدم الانخراط في المزيد من الحروب مثلما عاشوها ثمان سنوات في عهد اوباما الى قابلية اكثر كراهية للاجئين والمهجرين والمسلمين.
تعهد الرئيس ترامب بمعالجة تلك المخاوف التي صنعها لهم وعندما اصبح رئيسا عليهم : تفاجأوا انه يخفق في وعوده واذا اتخذ قرارات فانه يتخد القرارات الخاطئة.

واصبح اول رئيس امريكي يفتقد الى المصداقية منذ دخوله البيت الابيض في اول اسبوع للحكم. وشعروا بصدمة انهم امام رئيس لا يحمل كارزما قيادية، ولا يجيد التخاطب مع الاعلام، ولايملك بلاغة الكلام.
وزاد من توالي الصدمات ان مايصرح به اليوم يفعل مايناقضه غدا.
لكن الشعب العظيم عاد الى مؤسساته وقيمه ودستوره ليستلهمون منها ما يعالج مشكلة المأزق:
فرأيناهم يخرجون للمطارات ليغنوا للمهاجرين ويستقبلونهم في اعظم صور التسامح القيمي.
ويتسببون في الغاء قرار الهجرة العنصري.
وشاهدنا الاعلام يشن اصعب الهجمات الاعلامية واقامة المحاكمات التلفزيونية مما اضطر الرئيس ان يقيل بعض مساعديه. وحتى تاريخ هذا المقال مايزال الرئيس تحت ضغط اعلامي مكثف وانكشاف المزيد من فضائح مستمرة قد تفقده منصبه.

لذلك نجد ان الغرب، الحليف التاريخي لامريكا، لم يتحمس للرئيس ترامب وبدأت امريكا لأول مرة بلا قائد تاريخي وفقدت ميزة السياسيين القادرين على فهم كواليس السياسة، الذين يدركون ان السياسة الامريكية تمر بأخطر ازماتها... لكنها بسبب نظامها الديموقراطي قادرة على تصحيح المسار في أقرب وقت.
لأن الشعوب الحرة لا ترهن قرارها عند المغامرين بدون وعي ولا عند السماسرة وعندما تستشعر الخطر تتخذ قرارها قبل ان يسقط الفأس على الرأس. ومايملكونه من يرلمانات ومجالس اشرافية وقضائية مستقلة واعلام حر يمثل دور السلطة الرابعة: كفيلة كلها بتصحيح الوضع وتغيير المسار.
الشعوب الحرة : تعرف ان المثل العربي الشعبي الذي يقول:
ياقانص بالحديَّة روح بلا صيد.... هو قول منطقي.. لذلك فإن الشعوب الحرة عندما تختار الرجل غير المناسب وتعترف بخطأ الاختيار فانها : تقومه.. او تقصيه.
ومن المستحيل ان تكون الحِدأة صقرا.. في واقع الاحرار...
الذين اتهموا اوباما بالضعف حين كان رئيسا لأمريكا ينطلقون في رؤيتهم واراءهم من خلفية ثقافية تدفعهم ان يعتقدوا ان اوباما صاحب الراي الأوحد.
بينما في حقيقة الامر ان اوباما المتعلم تعليما عاليا وكمحامي ومثقف.. اقرب للمفكر السياسي : كان يمثل حقيقة امريكا... وحزبه.

اما ترامب.. كرئيس لا يملك ملكة المفكر المتعمق والسياسي المثقف : فانه يمثل حقيقة نزعاته التي تناغمت مع نزعات الملايين الذين صدقوا شعاراته ومعهم الحق ان يقلقوا... ولم يمثل حقيقة امريكا التي تحتاج الى فترة استرخاء طويلة لتجدد بناء الداخل كي يكون قويا في مواجهة تحديات الحياة في القرون القادمة.
بناء الداخل: هو مايجعل الدول قوية... وبرغم قوة امريكا الداخلية.. الا انهم يدركون ان اعادة البناء والتغيير : من سمات الشعوب الحرة التي ترفض ان تعيش تابعة او تكون مجرد اوراق في ملفات مرمية على طاولات الاخرين.

بعض القادة السياسيين : يرسم احلاما وردية لشعبه ثم يصدمهم، بأنه ليس إلا.. كمن يضع يده في جيبك.. وقدمه في فمك!!

[email protected]