منذ أكثر من مائة عام عمل الكوردستانيون في كوردستان العراق على إنشاء دولة مدنية متحضرة ديمقراطية مع شركائهم العرب وغيرهم من شعوب هذه المنطقة من العالم، دولة تعتمد أسس المواطنة في بنائها الاجتماعي والسياسي، وكانت الخطوة الأولى بعد اتفاقية سيكس بيكو سيئة الصيت، أن منحوا ولاية الموصل العثمانية هويتها العراقية في استفتاء عصبة الأمم بالربع الأول من القرن الماضي، أملا في أن يحقق الشركاء الآخرين في المملكة العراقية ( ولاية بغداد وولاية البصرة ) وعودهم في تنفيذ مطالب شعب كوردستان في شكل الدولة وأساسياتها وحيثياتها بما يضمن حقوقهم الإنسانية والثقافية والسياسية.

وطيلة ما يقرب من ثمانين عاما لم يتلق الكورد من وعود الحكومات المتعاقبة في بغداد وعلى مختلف مشاربها وتوجهاتها، إلا الحروب المدمرة التي استخدمت فيها أبشع أنواع الأسلحة، بما في ذلك المحرمة دوليا كالأسلحة الكيماوية والعنقودية والنابالم، ناهيك عن عمليات الأرض المحروقة، التي أتت على أكثر من ثلث كوردستان في عمليات الأنفال سيئة الصيت ( ثمانينيات القرن العشرين )، والتي ذهب ضحيتها ما يقرب من ربع مليون إنسان، وتدمير خمسة آلاف قرية بما فيها من بساتين وينابيع ومنشآت، إضافة إلى تغييب مئات الآلاف من الكورد الفيليين في وسط العراق، وإسقاط جنسياتهم العراقية وتهجير عوائلهم إلى إيران ( سبعينيات القرن العشرين )، وأتباع سياسة الصهر القومي والتغيير الديموغرافي لسكان المدن الكوردستانية المتاخمة لحدود العراق العربي مثل كركوك وسنجار وزمار ومندلي وسهل نينوى ومخمور والشيخان وعقرة وغيرها طيلة نصف قرن ( 1958- 2014 )، وأخيرا تسهيل احتلال أجزاء من كوردستان العراق من قبل منظمة داعش الإرهابية واقتراف واحدة من أبشع جرائم التاريخ بحق الايزيديين والمسيحيين في كل من سنجار وسهل نينوى ( حزيران وآب 2014 ).

ورغم تلك الكوارث والمآسي بقي الكورد يعملون ويناضلون من اجل تأسيس دولة مواطنة متحضرة ديمقراطية، تحفظ العراق موحدا بشراكة حقيقية وتوجه مخلص لمعالجة جروح الماضي وتعويض السكان عما أصابهم من ويلات، وبهذه الروح ذهبوا إلى بغداد في آذار 1970 حينما

تصوروا إن القائمين الجدد على الحكم ينوون التعامل مع القضية الكوردية بجدية، وفعلوها قبل ذلك في الستينيات مع عبد الرحمن البزاز، لكن الحقيقة كانت غير ذلك لدى الطرف الثاني، حيث الغدر والخيانة والانقلاب على الاتفاقيات، وفرض مشاريع هزيلة كما فعلوا في تجربتهم البائسة فيما سمي بعد 1975 بقانون الحكم الذاتي الحكومي، الذي انهار وبدأت سلسلة جديدة من الكوارث والمآسي والحروب التي راح ضحيتها خيرة أبناء كوردستان وبناتها، وخيرة شباب العراق ممن تورطوا في تلك الحروب القذرة مجبورين غير مخيرين، دونما أن تنتج تلك الصراعات إلا الدمار والتقهقر والتخلف للبلاد، حتى اسقط التحالف الدولي مطلع الألفية الثالثة نظام صدام حسين وحزبه الذي تسبب في معظم مآسي الشرق الأوسط حتى يومنا هذا.

لقد تخلى الكوردستانيون عن استقلالهم الذاتي الذي فرضته انتفاضة الربيع 1991 وأقرته قرارات مجلس الأمن الدولي ( قرار 688 )، وتسارعوا إلى بغداد حفاظا على وحدة العراق وبناء دولة المواطنة والشراكة الحقيقية تحت خيمة ديمقراطية حقيقية ونظام مدني متحضر، والمساهمة في تأسيس دستور دائم يحفظ للبلاد وشعوبها كل الحقوق والامتيازات ويحترم خياراتها وتطلعاتها في دولة اتحادية اختيارية ( من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة مناطقية، ولا تمييز، ولا إقصاء ) و ( إن الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضا وسيادة ).*

وبعد أكثر من عشر سنوات ( بعد تشريع الدستور الدائم ) من وضع هذه الوثيقة الجامعة وشروطها في الالتزام، ماذا حصل وماذا جنينا ممن يحكمون بغداد؟

- تحول النظام تدريجيا إلى نظام طائفي بحت.

- الكتلة البرلمانية الأكبر تقود حملة عنصرية مقيتة ضد الإقليم وشعبه ورموزه ليل نهار ومنذ سنوات، وتدعو إلى أغلبية لإقصاء بقية المكونات.

- محاصرة الإقليم اقتصاديا بحرمانه من حصته في الموازنة العامة منذ 2014 مع قطع كافة رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين.

- إقصاء وتهميش بقية المكونات وإتباع سياسة الاحتواء والصهر على شاكلة ما كانت تفعله النظم السابقة في لملمة الانتهازيين والمرتزقة من المكونات المختلفة.

- تصفية القوات المسلحة والأمن والاستخبارات من كل المكونات وتهميشهم وإبعادهم عن مواقع القرار.

- تأسيس ميليشيات مسلحة خارج منظومة القوات المسلحة الوطنية على أسس طائفية، وتجميلها بإكسسوارات عشائرية وشخصية هزيلة من مكونات مختلفة لا تمثل إلا نفسها.

- إشاعة الفساد وإدامته وإضاعة فرص التقدم وبناء دولة مدنية، بهدر مئات المليارات من موارد البلاد.

- تعطيل وإيقاف تطبيق معظم مواد الدستور وفي مقدمتها ما يتعلق بحقوق السكان في المحافظات من تأسيس الأقاليم، بل ومحاربتهم كما حصل مع مطالب شعب البصرة والانبار وصلاح الدين ونينوى، وكذلك تعطيل قانون النفط والغاز وتطبيقاته والمادة 140 وعدم إجراء تعداد عام للسكان.

وقائمة الخروقات تطول وتمتد على كل مساحة العراق ومكوناته، حتى أصبح اليوم واحدا من افشل دول العالم وأكثرها بؤسا ورعبا وفسادا، ناهيك عن إن سيادته في الأصل مثلومة باختراقات دول الجوار وما بعد الجوار تحت مختلف التسميات والعناوين، حتى غدت عاصمته تحكم من قبل عصابات ومافيات مسلحة تستمد شرعيتها من الرب والدين والمذهب وفي كل حي وشارع، حيث الميليشيات وحكم قرقوز والصراع الطائفي المقيت، لهذه الأسباب ولأننا شعب يختلف كليا عن شعب العراق عرقيا وقوميا وثقافيا وتاريخيا وحضاريا وجغرافيا، فإننا بعد أن فشلنا بعد قرن من الزمان في أن نكون واحدا، وأن نكون شريكين حقيقيين في كيان مختلق غصبا عنا نحن الاثنين، سنذهب إلى خيار استفتاء الشعب لتقرير المصير، لكي نعيش بسلام بعيدا عن الصراعات الدموية والسياسات العنصرية والطائفية، لأننا شعب يحب الحياة والبناء والسلام، وسنكون فعلا الظهير المخلص لكل الشعوب الجارة وأولها شعب العراق الشقيق.

أيها الإخوة والأصدقاء في عراق الحضارة دعونا نعيش بسلام في كوردستاننا ونبني وإياكم أوطاننا، بعيدا عن لغة الحروب والاحتواء والاحتلال والعدوان.

ـــــــــــــــــــــــ

* نص من ديباجة الدستور الدائم

[email protected]