ويرى د.عبد السلام طويل؛ رئيس تحرير مجلة "الإحياء" وأستاذ زائر بكلية الحقوق جامعة محمد الخامس/ السويسي- سلا في دراسته الصادرة عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية بعنوان "السياسة والدين: مسارات مختلفة وسياقات متباينة"، أن الطابع المدني للخبرة التاريخية الإسلامية وللإسلام نفسه هو الذي ساعد على تجدره في المجتمع وجعله شديد الارتباط والتماهي مع ما نطلق عليه اليوم المجتمع المدني. ولعل السر في حيوية الإسلام وتجدده التاريخي، رغم كل ما تعرض له من أزمات، تكمن أساسا في طبيعته المدنية، ذلك أن غياب السلطان الديني في الإسلام كان يعنى وما يزال، عدم إمكانية استهلاكه من قبل أية سلطة زمنية استهلاكا نهائيا أو مشروعا، كما أن "قدرة العقيدة على أن تستوعب قيم النظام وقيم المقاومة والثورة معا هي الضمانة لاستمرارها، بقدر تأمينها لشروط تجديد النظام واستمراره.. ومن هنا هذه الخاصية التي تجعل من مصير الإسلام، كدين ومركز تضامن جمعي، لا يتأثر كثيراً بسوء الاستخدام الذي يتعرض له من قبل معتنقيه السياسيين، حيث يبقى قادرا على إحياء نفسه واسترجاع مصداقيته الاجتماعية باستمرار.
ويؤكد د.عبد السلام طويل أن طبيعة العلاقة بين الديني والمدني في التجربة التاريخية الإسلامية طبيعية توافقية، أكثر من ذلك، فإن الارتباط بين المدني والديني، بين الخيالي الرمزي والعقلي يعد بمثابة الأرضية المساعدة على السيطرة الذاتية وتفتح العقلانية التي لا غنى عنها لكل مدنية. وذلك في إطار رؤية شاملة ومستوعبة.
ويرصد د.عبد السلام طويل ثلاث اتجاهات نظرية ومنهجية كبرى للتعامل مع إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر؛ الاتجاه الأول ينطلق من مقاربة عقائدية للإشكالية، ويعتبر أن طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة محسومة ابتداء، بشكل ناجز، بمقتضى النص الديني على أساس من الوصل المطلق بينهما. وبمقتضى هذه النظرية لا تمثل السلطة حقا مدنيا وسياسيا عاما، وإنما تعكس حقا دينيا لمن يتمتعون بحق الولاية وهم أوصياء النبي والإمام في زمن الغيبة.
ومقابل هذه المقاربة العقائدية لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، من داخل المرجعية الإسلامية، هناك مقولة الفصل التام بين الدين والسياسة كما أسس لها الشيخ علي عبد الرازق. ووعيا بالتباين الشاسع في تقييم أطروحة الرجل بين من ارتقى بها إلى مستوى التأسيس لـ"مقدمات إسلامية للحداثة السياسية.. والتأصيل للنظام المدني." وبين من وصل إلى درجة تكفير الرجل ومحاكمته، من المفيد إبراز حدود العلم والإيديولوجيا في طرح هذه المقولة في سياقها السياسي والتاريخي.&
ويضيف د.عبد السلام طويل "غير أن اتجاه الفصل المطلق بين الدين والسياسة ميز، أكثر ما ميز، أنصار المرجعية السياسية الوضعية، وبوجه خاص، دعاة المرجعية الفلسفية العقائدية الذين يرفضون النظر إلى الإشكالية، التي نحن بصدد معالجتها، كإشكالية سياسية محكومة بمنطق التاريخ ومتغيراته. تم اختيار أبرز نماذج هذه الاتجاه، من خلال أطروحة عادل ظاهر، التي تم تناولها بالتحليل والنقد بنفس الدرجة التي جرى بها انتقاد مقولة الفصل المطلق كما جسدتها أزعومتي؛ ولاية الفقيه، والحاكمية في موضع آخر".
ويميل إلى المنحى الثالث، الذي ينظر إلى العلاقة بين الدين والسياسية كعلاقة تاريخية محكومة بموازين القوى الفعلية على أرض الواقع، وليست علاقة عقائدية أو منطقية مجردة عن محدداتها الموضوعية، دون أن يعني ذلك إنكارنا للمرجعية الحاكمة والموجهة لهذه العلاقة سواء أكانت هذه العلاقة علاقة دينية أو وضعية فلسفية، كل ما هنالك؛ أن المرجعية هي التي تصطبغ، تأويلا وتفسيرا وتأصيلا واجتهادا وتوظيفا إيديولوجيا أو مبدئيا، بصبغة شروطها ومحدداتها التاريخية المادية وليس العكس.
فالقيم والمعايير الحاكمة والموجهة للعلاقة بين السياسة والدين لا تخرج من حالة الكمون النصي إلى حالة الفعل والفاعلية التاريخية إلا من خلال شتى عمليات التنشئة والفهم والتمثل.. وشتى استراتيجيات التوظيف والتأصيل والتأويل واستغلال السياسي للديني.
ولإبراز هذا البعد التاريخي والموضوعي للعلاقة بين السياسة والدين، استلهم الكاتب المنهج المقارن فيما يتصل بمحددات ومنطلقات العلاقة بين السياسة والدين في السياق الحضاري العربي الإسلامي والسياق الغربي..
وفي هذا الإطار تساءل د.عبد السلام طويل: هل العلمانية نظرية سياسية إجرائية أم عقيدة فلسفية؟ محاولا التدليل على أنها نظرية سياسية إجرائية جاءت لتجيب على معضلة تاريخية محددة عرفتها المجتمعات الغربية والأوروبية بوجه خاص؛ حيث أولتها كل منها تبعا لسياقها الاجتماعي والثقافي والسياسي الخاص.. وهو ما قاد لإبراز ما عبر عنه بمفارقات المقاربة الفلسفية للعلمانية.. والدعوة، تبعا لذلك، لاعتماد قراءة سياقية تاريخية ووظيفية لها..
وفي محاولة لفهم الفهم العلمانية كنظرية سياسية إجرائية وطبيعة علاقتها بالديمقراطية، يخلص د.عبد السلام طويل إلى عدم مطابقة العلمانية للتحديات والمعضلات التي يفرضها واقع العلاقة بين الدين والسياسة في العالم العربي؛ حيث يعاني الدين من توظيف الدولة وإخضاعه لرهاناتها السياسية وليس العكس، ولذلك فالمطلوب ليس العلمانية، وإنما الديمقراطية والعقلانية ليس لتحرير السياسة من هيمنة الدين كما اقتضت ذلك التجربة التاريخية الغربية، وإنما لتحرير الدين من هيمنة السياسة ورهاناتها، وكذا تحريره من التوظيف الإيديولوجي لمختلف القوى السياسية.&
ويضيف: "لكن مع ذلك، بإمكاننا أن نلحظ في الفكر العربي المعاصر تطورا إيجابيا في الموقف من العلمانية؛ تشديدا على ضرورة أن تغدو "قيمة عمومية" منفتحة وغير متخاصمة مع قيم المجتمع وثقافته". &
وفي المحصلة النهائية، يخلص د.عبد السلام طويل إلى أن جوهر حل مشكلة العلاقة بين الدين والدولة يتوقف على النظر إلى الرأسمال الديني باعتباره رأسمالا مشاعا ومشتركا لا يحق لأي فريق أن يحتكره أو يصادره، كما لا يحق لأي كان أن يزدريه أو يعمل على إقصائه من حياة الناس، كما يتوقف على التوافق والإجماع على مرجعية جامعة على غرار مؤسسة إمارة المؤمنين في النظام الدستوري المغربي، مثلما يتوقف على النجاح في &بلورة قاعدة ثابتة وواضحة لتوزيع السلطات الاجتماعية بما في ذلك السلطة الدينية.. علما أن توزيع السلطات هو التعبير عن توزيع المهام والمسؤوليات في تسيير وتكوين النظام الاجتماعي، وهو بالتالي أساس هذا النظام وبدونه لا يمكن أن يعيش المجتمع إلا في حالة التخبط والصدام الدائم بين الصلاحيات والسلطات المتعددة.
&
&