&&من الصعب ان يتخيل المرء صامويل ريتشاردسون روائياً. فان ابن النجار هذا لم يذهب الى المدرسة إلا بصورة متقطعة الى ان بلغ سن السابعة عشرة حين تدرب ليكون طباعاً. ولم ينشر روايته الأولى إلا في الخمسين من العمر. وحتى هذا كاد ان يكون مصادفة. إذ كان ريتشاردسون مالك مطبعة عندما طلب منه بائعا كتب بريطانيان في عام 1739 ان يطبع لهما دليلا يضم رسائل يمكن ان يستخدمها القراء نموذجا لمراسلاتهم.&

عمل ريتشاردسون على توسيع المشروع وقال في مقدمة الدليل انه يريد ان يعلّم القراء ليس كتابة رسائل بلغة انيقة فحسب بل تعليمهم "كيف يفكرون ويعملون بإنصاف وحكمة في نواحي الحياة العامة". استوحى ريتشاردسون قصة حقيقية لكتابة عدة رسائل من، والى فتاة رقيقة تعمل خادمة كان سيدها يتحرش بها، لكي يحذر الشابات من "المصائد التي يمكن ان تُنصب للايقاع بشرفهن". وفي غضون شهرين فقط انجز كتاب "باميلا" الذي يعتبره كثيرون اول رواية حديثة باللغة الانكليزية. ولم يدَّع ريتشاردسون الريادة لنفسه بل اشار الى ان "باميلا" كتاب تعليمي رغم انه كان رواية تُعنى بتمثيل الحياة الداخلية وليس قصص مغامرات كتلك التي كتبها دانييل ديفو وجونثاتن سويفت في حينه. وجاءت رسائل "باميلا" حيوية، مثيرة للجدل، لغتها تعكس ذكاء الفتاة الفطري وانعدام خبرتها. وفي الرسالة الأولى تصف البطلة ذات الخمسة عشر عاماً لوالديها الاهتمام الذي بدأت تلقاه من رب عملها الشاب غير المتزوج. ويحثها والداها في رسائلهما اليها على إبقاء مسافة بينها وبين سيدها قائلين انهما يفضلانها فقيرة في أسمال بل يفضلان تشييعها الى المقبرة على ان تكون فتاة هدرت شرفها مقابل ملذات دنيوية. وترد باميلا قائلة "أموت ألف مرة ولا أثلم شرفي".&
قد تبدو الرسائل المكتوبة في "باميلا" انشاء عاطفي وبلاغة لغوية لكن قراءة ريتشاردسون تعني الدخول في عالم اخلاقي تُستخدم فيه صفات "الشرف" و"الأمانة" و"الفضيلة" كمرادفات للعذرية، حيث كانت طهرانية ريتشاردسون متطرفة حتى بمعايير فترته، كما تلاحظ الروائية الاميركية اديل والدمان في مجلة نيويوركر. ولكن هذه اللغة الوعظية لم تثن القراء بل كانت "باميلا" رواية شعبية حتى انها اوحت بانتاج مصنوعات لمحبيها منها أكواب على سبيل المثال. كما نُشرت روايات مزيفة زُعم انها اجزاء تالية وأُعدت نسخة مسرحية من الرواية وحتى اوبرا كوميدية. وتلقت شعبية الرواية دفعة دعائية قوية حين اعلن الكسندر بوب انها تُغني عن "مجلدات من المواعظ". ظهرت روايات عديدة كانت "باروديا" لرواية باميلا بينها اثنتان كتبهما هنري فيلدنغ حين كان كاتباً مسرحياً فاشلا يدرس القانون. إذ رأى فيلدنغ الذي اشتهر بروايته "توم جونز" وما فيها من مغامرات جنسية، ان اخلاق ريتشاردسون التي تنتمي الى نمط المدارس الدينية، شيء لا يُطاق. وبدأ حياته الأدبية بقصص تمسخ باميلا وتصورها فتاة تجيد حياكة المكائد.&
يمكن تقسيم حياة ريتشاردسون الى مرحلتين: مرحلة ما قبل "باميلا" ومرحلة ما بعدها. ولا يُعرف الكثير عن الفترة الأولى لا سيما وانه على ما يبدو أتلف غالبية رسائله التي كتبها في تلك الأيام. بعد "باميلا" أصبح ريتشاردسون، رجل الأعمال المغمور في السابق، واعياً بكونه شخصية أدبية عامة واقام علاقات مع مجموعة من المعجبين كثير منهم نساء. وبدأ يحفظ رسائله بنّية نشرها لاحقا. في هذه الفترة كتب ريتشاردسون روايته الثانية "كلاريسا" التي، كعهده، وضع بطلتها ايضاً في موقف صعب. فمن بداية الرواية نرى كلاريسا هارلو ابنة الثمانية عشر عاما تواجه ضغوط عائلتها للزواج من أجل المال. وتعتقد العائلة ان ابنتهم إذا لم تتزوج من الثري وإن كان ثقيل الدم سلوميس فانها ستهرب مع لوفلايس اللطيف جدا لكنه عابث. وتصر كلاريسا على انها ستهجر لوفلايس إذا وافق والداها على بقائها عازبة.&
كان احد اهداف ريتشاردسون المعلنة من رواية "كلاريسا" ان يحذر الشابات من "تفضيل رجل المتعة على رجل الفضيلة". ولكن المرء لا يستطيع ان يتحدث عن كلاريسا وأبطالها والرسالة الاجتماعية التي تتضمنها من دون الاعتراف بسمتها الأكثر شهرة وهي طولها. فان كلاريسا أطول رواية كُتبت بالانكليزية، تتألف من نحو 970 الف كلمة بالمقارنة مع 560 الف كلمة طول رواية ليو تولستوي "الحرب والسلام" مثلا. وتقع طبعة الرواية من دار بنغوين في 1499 صفحة. وحتى أكبر المعجبين بالرواية يعترفون بأن ريتشاردسون بالغ في طولها. حاول ريتشاردسون في روايته الثالثة والأخيرة "غرانديسون" ان يكتب عن الرجل الفاضل الذي يجب ان تفضله النساء على لوفلايس الذي اغوى كلاريسا. فان البطل غرانديسون وسيم، شجاع وكريم مع النساء والفقراء. ولكنه أيضا واعظ اخلاقي يعلن ان هناك "ما يكفي من المتع البريئة لملء كل ساعة شاغرة بالبهجة" من اجل اقناع صديق بالكف عن ملاحقة النساء، ويأخذ الصديق بنصيحته. يتألف العمود الفقري للكتاب من دروس عن الحياة، ويتعلق ما في الرواية من حبكة بوقوع البطل بين امرأتين تحبانه. ولكن امرأة واحدة تستطيع ان تتزوجه. فحزنت الثانية التي لا تستطيع الزواج منه حتى انه بذل جهداً مضنياً لاقناعها بالعدول عن قرارها الزهد بالحياة والاعتكاف في دير لتصبح راهبة.
وتكتب الروائية الاميركية اديل والدمان ان المفاجأة في رواية غرانديسون انها كانت بمثابة معيار عند الروائية الانكليزية جين اوستن التي تأثرت بروايته حتى انها كانت قادرة على ان تصف بدقة كل ما قاله أو فعله ابطالها الكثيرون. وكانت حملة ريتشاردسون على الرجال الفاجرين من الموضوعات التي تناولتها اوستن في اعمالها الروائية، ولكن بطريقة اكثر اقناعا في احيان كثيرة. وبعد ما يربو قليلا على نصف قرن على رواية ريتشاردسون أدخلت اوستن على الرواية الواقعية انضباطاً وتكثيفاً ومفارقة مكنتها من تحويل نوازعها الوعظية الى أساس للابداع الفني. وترى الروائية والدمان ان ريتشاردسون كان في احيان كثيرة ينجح بالرغم من نفسه، وحين كانت الحياة الداخلية الشائكة لشخصياته تطغي على اهدافه الوعظية، فانه هنا بالذات كان يحقق عظمته.&
&