&
تورد المرويات العربية "حكاية"، قد لا تكون حقيقية، لكنها تعكس بما فيه الكفاية، شغف الفتوحات، باسم العقيدة والدين الجديد: الإسلام. وخلاصة تلك الحكاية، هي ان بعد وصول القائد العربي المسلم "موسى بن نصير" (640-716م.) الى شواطئ المحيط الأطلسي عند "سلا" الواقعة على تخوم الرباط، فاتحا قبل ذلك الأراضي التي تعرف الان بالجزائر والمغرب، لكز جواده ليدخل مياه المحيط؛ الا ان الحصان توقف بعد أمتار عندما بدأت تغوص أرجله عميقا في تلك المياه. حينها هتف القائد بصوت عال بمقولته التي تشير اليها المرويات:&
- "ها أنك تشهد يا الله، ليس من ثمة ارض امامي لأفتحها!"
&لكنه بعد ذلك فتح الاندلس بمعية طارق بن زياد، عندما عبر الأخير البرزخ الذي يفصل افريقيا عن اوربا، في سنة 711 م. &والذي سيخلد اسمه الى الابد بتسميته بـ "مضيق جبل طارق". والقصة معروفة، اذ سيقتل ملك القوط الغربيين لهسبانيا (اسبانيا) <رودريك> (تدعوه المرويات العربية "لذريق")؛ وستفتح امام المسلمين ارضا جديدة، وسيخلد حدث هذا الانتصار في مكان بعيد عن الاندلس، عند أحد روائع العمارة الإسلامية، وهو "قصير عمرة" (710-715 م.) في بادية الاردن، (عمارته التي شغفت شخصيا بـ"تيمتها" كثيرا، والفت فيها كتابا ضخما بعنوان "القصور الأموية"). فعلى جدران ذلك القصر رسمت لوحة بالفريسكو لأباطرة مهزومين يقفون خلف الخليفة "الوليد بن عبد الملك": باني القصر والمنتصر على أولئك الاباطرة الستة. وهنا في الاندلس، ستتأسس على اديمها حضارة مميزة، اجتهد المسلمون في تنويع اجناس ابداعاتها، هي التي اعتبرت من خيرة ما انتجه الفكر الإنساني في مجالات معرفية عديدة، كالآداب والفكر والفلسفة والعلم، وطبعا... العمارة! التي ما انفكيت مولعا بها وشغوفا بإنجازاتها. &
بيد ان "البرتغال" الحالية، (والاسم مركب من كلمتين هما: "بورتو" و"غال")، التي زرتها مؤخراً (نهاية نيسان/ ابريل)، كان فتحها من نصيب عبد العزيز، الابن الاكبر لموسى بن نصير، اثناء حملته عام 95 هـ. (714 م.) كان العرب يدعون تلك الأقاليم "بغرب الاندلس". وكلمة الاندلس لها وقع خاص عندي. اذ اعتبر نفسي من محبي تلك الحضارة ومنتجها الإبداعي المتنوع، ولاسيما الجانب المعماري منه، الذي درسته باهتمام، وكتبت عنه الكثير، وتعقبت إنجازاته الرائعة في تلك الأقاليم النائية ... القريبة الى فؤادي جداً.
لكني سأختصر، الان، ما شاهدته في لشبونة، او "إشبونة" كما دعاها المسلمون الاندلسيون، وهي الحاضرة المهمة في إقليم "غرب الاندلس" من مآثر معمارية خلفها الاندلسيون بعد ان حكموا تلك الأقاليم خمسة قرون امتدت من بدايات القرن الثامن وحتى القرن الثاني عشر، عندما سقطت "إشبونة" سنة 1147، على ايدي ملك البرتغال الفونسو هنريكه. &بعدها تم طرد المسلمين منها، واجبر من بقي على التنصير بالقوة.&
بالطبع، ان فترة طويلة ومستمرة من الوجود الاندلسي، لا يمكن الا ان تترك بصماتها الكثيرة والمتنوعة على شواهد بيئة المدينة المبنية. ففي اعلى تلة، وفي الجانب الشرقي الشمالي من لشبونة بنى المسلمون قلعة ذات تحصينات عسكرية للدفاع عن مدينة إشبونة. وهذه القلعة واسوارها الطويلة وابراجها العديدة، خير مثال للعمارة العسكرية التي شيدها الاندلسيون. صحيح ان ملوك البرتغال، اضافوا الى تلك القلعة وجددوا معالمها، الا انها ما برحت تحتفظ بطابعها الاندلسي، عبر استخدام عناصر معمارية وبنائية تدلل على ذلك النمط البنائي الشائع وقتذاك. تطل القلعة، التي تسمى الآن "قلعة القديس جورج"، على ضاحية "الفاما" (دعاها العرب "بالحامة"، وهي منطقة كانت غزيرة في حماماتها وبعيونها الساخنة). وهي لاتزال، لحين الوقت الحاضر، تذكر بطابعها الاندلسي من خلال شوارعها الضيقة، والوان جدرانها المشغولة بالخزف الملون، وبيوتها القريبة بعضها من البعض الآخر. عندما كنت اسير في تلك الازقة المتعرجة، لم اشعر ولم تنتابني تلك الغربة المصاحبة، عادة، للأمكنة الغريبة. ذلك لان "جني" المكان، (الذي يعرف تأثيراته كثر من المعماريين والعمرانيين)، ما فتئ "يختبأ" في موقع ما من تلك الازقة، مضفياً عليها تلك الالفة والحميمية التي تكتسي بها، مثيلاتها: ازقتنا و "دروبنا" الشرقية!
ثمة موقع آخر، يمكن للمرء ان يشعر بسهولة، بانه في حضرة مكان مميز وتاريخي تشي عمارته (او بالأحرى عناصر عمارته)، بتلك الحقبة الزمنية التي امتدت خمسة قرون! وأعنى بها موقع "الكاتدرائية" اللشبونية. فهي مقامة على أنقاض مسجد إشبونة الكبير. ولا تزال جدرانها الحجرية الخارجية الاندلسية باقية لكنها الان ضمن مبنى الكاتدرائية. عند أحد تلك الجدران، التي لا يمكن للعين (عين المحب للعمارة الاندلسية!)، ان تخطئه، وترجعه الى مصادره الاصلية، ظللت ماسكا بيدي سطحها، آملاً ان "يسري" في جسدي "كهرباء" ذلك الشغف الإبداعي، الذي، أخمن، بانه لازم حتماً بناة المسجد، وهم منشغلون وبإشراف "عرفاءهم" في عمل خلاق لتشييد ذلك المبنى، الذي أُعتبر فخر المدينة الاندلسية، وعنوان تباهي سكانها. (جدير بالإشارة، بان كلمة <عريف> في المعجم الاندلسي، تعني <معمار>!)
خارج لشبونة، وعلى بعد حولي 25 كم عنها تقع مدينة "سنترا" (شنترا، وفقا للفظ الاندلسي)، انها منتجع الملوك البرتغاليين، لكنها أيضا، موقعا لمعلم بنائي اندلسي ضخم، بمثابة قلعة محصنة أخرى ذات اسوار وابراج تشرف من الاعالي على مدينة لشبونة. كانت المدينة تحتوي على تجمعات الاندلسيين (المورسكيين، وفقا للتعبير البرتغالي). وفي نهاية القرن الخامس عشر منح الملك مانؤيل الأول ارض مقبرة الاندلسيين المسلمين الى اشخاص عاديين. كانت القلعة مسكونة طيلة القرن السابع وحتى الحادي عشر. وقد تكون قد استخدمت كمكان للرعاة واناسهم. الا ان الأمير وولي العهد وقتذاك "فرناندو الثاني"، الذي سيشيد قصرا "عجيبا" له في "سنترا"، (سنأتي على ذكره حالاً)، سعى وراء عمل إضافات الى تلك الاسوار مثل الأبراج الصغيرة ودرجات السلالم وعمل دربزينات وحواجز الى المسارات العلوية للأسوار، كي يمكن اتاحة الفرص للزوار التمتع بالمناظر الخلابة والاستثنائية في جمالها التي تحيط المكان.&
اما "القصر" إياه، الذي وردنا ذكره تواً، فقد امر بتشييده الملك (الان) "فرناندو الثاني" في القرن التاسع عشر، بعد ان اشترى سنة 1838، موقع الدير المبني في القرن السادس عشر، في أعالي تلال سنترا باسم "دير نوسا سنهورا دي بينا". وهذا القصر ذو العمارة الغرائبية، عكست "مزاج" الملك وابانت بهيئته المزدحمة بالتفاصيل، شخصيته المغرم بالمقاربة "الرومانسية" الشائعة وقتذاك. . بيد ان المهم في كل هذا ولع الملك (الغريب)، في ان تحضر عناصر العمارة الاندلسية (المورسكية)، جنبا الى جنب أنماط معمارية آخرى ضمن ادوات التكوين للقصر. ولهذا فان عمارة القصر تعج بالعناصر التوليفية المقتناة من "دفتر" العمارة المورسكية الشائعة. وهو الان احدى مزارات "سنترا" ويحظى بأعجاب كثر لشكل عمارته “الأسطورية"، المتخمة بتفاصيل عديدة مستقاة من أنماط معمارية متنوعة.
يعتبر كثر من البرتغاليين الحقبة "الاندلسية" وصمة عار في تاريخهم ولا يريدون تذكرها، ويسعون وراء نسيانها والغائها من ذاكرتهم. ليس في نيتي، هنا بالطبع، اتخاذ موقف مضاد من تلك الآراء والتقييمات. انهم احرار في تصوراتهم وطرح أفكارهم. انهم في الأخير، في بلدهم وهم معنيون أساسا بقضاياهم واهتماماتهم. جدير بالإشارة ان الامر ذاته، والمزاج ذاته، والنَفَس ذاته، كان رائجا ومشاعا في اسبانيا المجاورة. لكن الامر تغير فجأة، جراء "صدفة" غير متوقعة. اذ زار، في 1828، الكاتب الأمريكي، (والسفير فيما بعد)، " واشنطن ايرفينغ" (1783-1859)، قصر الحمراء في غرناطة، الذي خلب لبه من النظرة الأولى، واصفا القصر وعمارتها بانها مجمع "بالغ الفتنة والجمال، تقع في أروع موقع طبيعي رايته في حياتي". بعد ذلك نشر كتاباً دعاه أولا " الحمراء سلسلة من الحكايات والصور القصصية عن المسلمين والاسبان" في سنة 1832؛ ثم أعاد نشره بتنقيح في سنة 1851، عنونه "حكايات الحمراء"، التي انتشرت سريعا وراجت لدى أوساط ثقافية متنوعة، ما أدى الى إعادة النظر في تلك الفترة الزمنية وانجازاتها، واعتبر الاسبان تلك الحقبة جزء أساسيا من ماضيهم ...المشرف. بعدها ظهرت دراسات عديدة، نادت برفع غبار سطوة محاكم التفتيش على الذائقة الثقافية والتخلي طوعا عنا لجهة الموضوعية والحكم على الأشياء لقيمتها الواقعية، الملموسة، وليس عبر تصورات معينة ومسبقة، لما يمكن ان تكون!
يشتغل بعض الدارسين البرتغاليين على هذه "الثيمة" في الوقت الحاضر. ومع ان نتائجها ومنتجها البحثي يبدو متواضعا وخجولا، الا اننا نرى في ذلك تحولا واضحا في "المزاج" الثقافي البرتغالي. ثمة "نسيم" صاف وطازج يهب على نوعية الدراسات الاكاديمية التي تتعاطى مع تلك الحقبة، مناديه بضرورة إعادة "الحكم" والتقييم لتلك الفترة الزمنية وانجازاتها. ونأمل بان الدراسات المستقبلية، في هذا المجال، كفيلة بان تجعل ذلك التقييم فاتحة لتغيير مثل تلك التصورات السلبية عن الفترات الاندلسية ونتاجها الحضاري المرموق في تاريخ البرتغال؛ لكن ذلك ...قصة آخرى! &
د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي