بقلم جوان آكوسيلا

&
يبدو أن موضوعة فاسلاف نيجينسكي (1889-1950) كانت في انتظار مسرح روبرت ولسن التجريبي. ونيجينسكي هو الراقص البولوني الروسي الذي أدخل عندما كان في أوائل العشرينات من العمر عنصر الحداثة إلى الباليه ثم ما لبث أن تحول إلى الجنون الكامل. أما ولسن فلطالما اهتم بأصحاب المشاكل الذهانية وكان في طفولته يعاني هو نفسه مما يسميه "خللا في الاستيعاب" إذ كان بطيئا في القراءة وبطيئا في التعلم وكان يعاني من حالة تلعثم شديدة. ولكنه وما أن تجاوز هذه المشاكل حتى بدأ يتعرض لأنواع الإضطرابات لدى آخرين. فعندما كان شابا، عمل معالجا لأطفال يعانون من تضرر الدماغ ثم اختار كرستوفر نولس وهو مراهق مصاب بمرض التوحد لأداء أدوار في عدد من أعماله. ولذا من السهولة بمكان أن نلمس سبب انجذابه إلى حالة نيجينسكي الذي يُعتقد أنه كان مصابا بمرض الشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية وكذلك إلى المهنة التي كان يمارسها. وربما أزعج ولسن بعض المتخصصين في فنون الرقص عندما طرح نفسه في إحدى المرات كمصمم رقصات، وهو الذي لم يتلق أي تدريب رسمي في هذا المجال، إذ قال "كل ما يعرض على المسرح رقص".&
إن كان نيجينسكي ثيمة مثالية بالنسبة لولسن، فكذلك هو ولسن بالنسبة لنيجينسكي، فقد شاهدت العديد من المسرحيات والأفلام والرقصات عن نيجينسكي وكان أغلبها رديئا جدا بسبب وزن الألم في حياته وهو ثقل من الصعب جدا حمله ولا يستطيع كاتب أن يطرح تفاصيل هذه الحياة بقوة كافية دون السقوط في فخ أنواع من العروض تكون شاذة وغريبة. وربما كان فلم هربرت روس (1980) وعنوانه "نيجينسكي" الذي أدى فيه الراقص جورج دي لا بينيا الدور الرئيسي، من أكثر الأمثلة المألوفة دلالة على هذه الحقيقة، إذ كان الراقص يتدحرج على الأرض ويتلفظ بكلمات بلا معنى. ولكن ولسن لم يفكر في إنتاج مثل هذا النوع من العروض لأنه ينتمي إلى تيار أصحاب الرؤى غير الواقعية وغير السردية في المسرح الحديث، تلك السلالة التي بدأت بفاغنر وامتدت عبر الرمزيين والسرياليين. (في 1971، عندما قدم ولسن عرضا لأول مرة في باريس، كتب لويس أراغون الذي كان واحدا من بقايا السرياليين يقول: "إنه المستقبل الذي تنبأنا به"). ومن المعروف عن ولسن أن شخصياته الدرامية لا تمثل أناسا عاديين بل هم أشباح وقديسون وقتلة فيما تحلق في سمائه كراسي ويطير فيها رجال مشنوقون. ومن البديهي أن تكون مثل هذه الصورة نتاج شعور قوي، ولكن الصورة حبست المشاعر هنا وحيدتها وأبعدت الجانب السيكولوجي - الدموع والشروحات - بهدف الحفاظ على جانب الميلودراما.&
ووجد ولسن نجما مثاليا هو ميخائيل باريشنيكوف. ويا لها من بدعة! إذ استقدم أهم راقص باليه في نهايات القرن العشرين ليجسد شخصية أهم راقص باليه في بدايات القرن العشرين. وعلى أية حال، لا يحتاج إنجاز عمل درامي عن جنون نيجينسكي إلى مهارة تقليدية عظيمة قدر ما يحتاج ممثلا راقصا ذا حساسية عالية جدا، وهو ما أصبح عليه باريشنيكوف في نهاية عقده الستين لاسيما وأنه كان قد أظهر اهتماما كبيرا بأداء دور نيجينسكي وتلقى على مدى سنوات منصرمة عروضا عديدة لذلك. وفي عام 2013، كان باريشنيكوف وولسن يعملان على مشروع آخر عندما اكتشف الإثنان أن الطرف الآخر مغرم باليوميات التي كتبها نيجينسكي في عام 1919 قبل دخوله المصح العقلي مباشرة والتي تتضمن سيل أفكار وكلمات عن الشهوات الحسية والحروب وعن الإله. ويقول ولسن إنه فكر في إنتاج نسخة مسرحية من هذه اليوميات وسأل باريشنيكوف إن كان يريد أداء الدور الرئيسي فيها. وما لبث أن انضم إلى الإثنين لوضع السيناريو الكاتب داريل بنسكني الذي طالما عمل مع ولسن. وفي تموز من العام الماضي، 2015، عرضت "رسالة إلى رجل" وهي مسرحية تقوم على شخص واحد، في مهرجان "عالَمان" في سبوليتو لأول مرة. وخلال هذا الصيف، يجري العرض جولة في أوروبا ليصل في تشرين الأول/اكتوبر المقبل، إلى الأكاديمية الموسيقية في بروكلين. &&
&
من هو الرجل؟
"الرجل" في "رسالة إلى رجل" هو سيرج دياغيليف، مدير فرقة الباليه الذي رصد نيجينسكي في عام 1908 عندما كان الأخير في التاسعة عشرة من العمر وكان عندئذ الراقص الموهوب والمعجزة في باليه مارينسكي في سانت بيترسبورغ، ثم أقام علاقة جنسية معه وجعله الرجل الأول في الباليه الروسي، وهي الفرقة التي أسسها في باريس في عام 1909. وبفضل الأدوار التي أداها ورقصها لهذه الفرقة ومنها بيتروشكا وطيف الوردة والعبد الذهبي حاز نيجينسكي شهرة واسعة في مختلف أنحاء أوروبا. وتحت رعاية دياغيليف، بدأ أيضا بتصميم رقصات. ويمكن اعتبار أعماله "بعد ظهيرة حياة برية" (1912) و"شعيرة الربيع" (1913) أول عروض
باليه حديثة. ومع ذلك، كانت العلاقة الحميمية بين نيجينسكي ودياغيليف قد فترت بعض الشئ عند عرض "الشعيرة" وتسلل نيجينسكي، من وراء ظهر دياغيليف للزواج من فتاة ارستقراطية هنغارية اسمها رومولا دو بالسكي وكانت معروفة بمتابعتها له داخل الفرقة. كان هذا فعلا صادما من جانب نيجينسكي. وعلى أية حال، وأيا كان شعور الرجلين إزاء أحدهما الآخر، فقد كانا مثل زوجين وكانا يعيشان معا على مرأى ومسمع من الجميع. ولكن حياة نيجينسكي المهنية كانت تعتمد على دياغيليف - كانت تلك حقيقة لم يدركها الأول على ما يبدو. وعندما طرده من عمله بعد الزواج بفترة قصيرة، كتب الراقص لإيغور سترافينسكي طالبا منه أن يشفع له: "إن كان صحيحا أن سيرج لا يريد العمل معي فمعنى ذلك أنني فقدت كل شئ". وهذا ما حدث بالفعل ففي نهاية عام1917 كان بلا عمل وكانت لديه زوجته رومولا وطفلة في الثالثة من العمر عندما انتقل إلى سان موريتز. وهناك بدأ نيجينسكي يتحول إلى الجنون ببطء على مدى العام التالي. وأخيرا اشترى دفاتر مدرسية من بائع قرطاسية محلي وبدأ يكتب مذكراته مسجلا فزعه من الحرب العالمية الأولى واشمئزازه من الشهوانية وخوفه من أن يتعرض العالم إلى دمار وتأكيده بأن هناك من يلاحقه ويتجسس عليه ويشهر به ويدس له السم في طعامه. وكان الراقص يعتقد أحيانا أنه الرب إذ وقع في نهاية النصف الأول من اليوميات، بعبارة "الإله نيجينسكي" وكان يعبر في أحايين أخرى عن خشيته من تخلي الإله عنه. ومن يقرأ هذه الصفحات يشعر بوجود دياغيليف الواضح في هوامش اليوميات التي تضمنت مجموعة رسائل، لم ترسل أي واحدة منها على ما يبدو. وتحمل أكثر هذه الرسائل امتلاءا بالمشاعر عنوان "إلى رجل" (ومنه جاء عنوان عرض ولسن). وهذه الرسالة موجهة إلى دياغيليف الذي يقول نيجينسكي إنه لن يتفضل ويطرح اسمه ولكنه يدينه بشدة.&
&
بين الجد والهزل
و"رسالة إلى رجل" أشبه ما تكون بمسرحية هزلية تتكون من عدد من المشاهد والفصول، يظهر نيجينسكي - باريشنيكوف مرتديا في أغلبها بذلة سهرة وبوجه يغطيه صباغ أبيض: وجه بييروت، بيتروشكا، جويل غري في "كاباريه"- كل هذه الوجوه التي تلتقي فيها الإبتسامة مع الفظاعة. وفي أحد المشاهد، يظهر الراقص وسط ديكور يتكون من صخور مرتفعة مطلة على البحر فيما نرى في مشهد آخر أشكالا خشبية منفصلة تتحرك عبر المسرح لوحدها تمثل فتاة صغيرة ودجاجة وأشياء أخرى وتبدو مثل أهداف في معرض رماية. ونلاحظ أن الإنارة التي يهتم بها ولسن بشكل خاص على الدوام نفذت بعناية كبيرة إذ نرى ظلالا سميكة وبلون الحبر ثم تظهر فجأة أضواء متفرقة هنا وهناك. ويستخدم العرض الذي يستمر 70 دقيقة أكثر من 300 نوع إضاءة. وفي المشهد الأول، نسمع ترنيمات بعيدة وضعيفة تبث الطرب في النفس ثم ما يلبث أن يظهر نيجينسكي مرتديا بذلة سهرة ليرقص رقصة الثعلب حينا ورقصة سوزي كيو حينا آخر. ثم تظهر صورة كبيرة لدياغيليف وهو مستلق داخل بانيو ملئ بفقاعات الصابون وتبدو الصورة معلقة على جدار المسرح الخلفي. وبعدها بقليل نسمع صوت إطلاقة نارية لتطير قبعة الرجل العظيم. ويعتقد نيجينسكي أنه يعرف كيف يتعامل معه وأنه ليس هناك أي مشكلة حقيقية. ثم ما يلبث أن يظهر راكضا ليقول إنه شاهد آثار دماء على الثلج وليؤكد بأن شخصا ما قد قتل. وبالطبع، ندرك في الحال أنه هو نفسه هو ذلك الشخص المعرض للخطر. ويقول "إنني أقف أمام الهاوية التي قد أسقط فيها" وما نلبث أن نسمع صوتا يقول: "أخاف السقوط". وبعد ذلك بقليل نراه جالسا على مصطبة وهو يطيل النظر والتحديق في نافذة ترتفع فوق مستوى رأسه ومجزأة بخشبات طولا وعرضا. هل نحن داخل كنيسة أم داخل مصح؟ وببطء شديد، ملمتر بعد ملمتر -علما أن الحركة البطيئة من خصائص ولسن الأخرى- يتحرك الراقص إلى الخلف فيما يواصل التحديق في النافذة. ولكن، تراه عم يتحدث في هذا الجو الشعائري؟ أهو الجنس؟ هل يخشى ارتكابه خطيئات جنسية شنيعة؟ وأن يعيد الكرة مرة أخرى: "أنا حيوان، أنا وحش. سأمارس العادة السرية والروحانية. سآكل كل من أستطيع الإمساك به. لن يوقفني أي شئ". وبعد وهلة يروي قصة سمعها عن امرأة وضعت حلوى على عضوها الأنثوي لتجعل حيوانا يلعقها. وكان أن حيوان غوريلا هو المخلوق الذي ظهر لتنفيذ المهمة. وما لبثت المرأة أن ماتت. &
على أية حال، أفكار نيجينسكي الجنسية قذرة ومضحكة وتعيسة ولكنها تعيسة على الأغلب. وعندما يصل باريشينكو إلى حافة المصطبة، يقفز من المكان ثم يخلع سترته ويفردها في شكل جسد يضمه بشكل مائل إلى صدره - ليبدو مثل صورة السيدة العذراء وهي تضم جسد المسيح إليها. وهنا، إن لم تفكر في النحيب على قصة غوريلا تلعق، أعد التفكير في ذلك مرة أخرى. وفي مقابلة، سألتُ باريشنيكوف عمن صمم الحركات والرقصات في هذا العرض فقال إنه لا يعتبر الأمر تصميم رقصات تماما وأضاف أن بعض الحركات البسيطة مثل رقصة الثعلب كانت من إنتاجه. أما المقاطع الأكثر تعقيدا فارتجلها ولسن إذ صور نفسه وهو يرتجل ثم أعطى الشريط إلى باريشنيكوف وقال له "طوعها واجعلها من إنتاجك أنت". فعكف باريشنيكوف على تغييرها وإضافة ما شاء إليها حتى وصل الإثنان إلى صيغة اتفقا عليها معا.&
أكثر المشاهد تأثيرا في هذا العرض هو المشهد الخاص بالإحساس بعار جنسي ولكن ما يلبث المشهد اللاحق أن يجعلك تشعر بأنك وصلت حقيقة إلى أعماق الكابوس الذي عاشه نيجينسكي. وعلى الستار الخلفي للمسرح تشاهد ما يبدو أنه صورة لامتداد واسع من جليد داكن يبدو مثل ثلج داسته أقدام عديدة فتحول إلى ما يشبه الطين. ولكنك تلاحظ أيضا بروزات جليدية حادة في أماكن أخرى في الصورة من المؤكد أنها ستقتلك لو زلت قدمك وسقطت عليها. ويقف نيجينسكي وظهره لنا وهو يتحرك نحو الستار الخلفي ببطء شديد حيث الجليد الداكن البارد الزلق والخطير- وهل هناك ما هو أسوأ؟ ولكنك في الواقع لا تعرف تماما ماهيته على وجه الدقة إذ ما تلبث أن ترى من بعيد كائنات مثل بعوضات تزحف خارجة من المكان. وعندئذ تدرك أنها ليست صورة بل شريط فيديو وأن المخلوقات السود التي تخرج هم رجال، وعددهم خمسة حيث يمكن رؤيتهم من بعيد، وهناك ندرك أن الامتداد الجليدي أضخم بكثير مما نعتقد. وتمكنت من تذكر هذا الفيديو المأخوذ من "الدانوب في بودابست"، في نهاية الشتاء، ولكنها معلومة ليس من المهم أن يعرفها أحد. كل ما نحتاجه هو أن نرى هذه الرقعة الطينية الداكنة والشاسعة والقبيحة ونيجينسكي تعيس الحظ الذي يتوجه إليها بشكل مباشر. &
كتب نيجينسكي يومياته لمدة ستة أسابيع ونصف فقط. ثم توقف النص لأن رومولا قالت له إنها تريد أن تأخذه لزيارة طبيب أعصاب لطيف في زوريخ. ووافق بتردد. كان يخشى من أن تدخله مصحا عقليا. وهذا ما حدث. وفي المصح، كان يصرخ ويهاجم الآخرين ويقول إن ذراعيه وساقيه ليست له - وإنها لشخص آخر. وعاش نيجينسكي لثلاثين عاما أخرى في هذا المكان ولكنه لم يشف على الإطلاق. وفي أسوأ فتراته، كان ينثر الخراء على الجدران فيما كان أكثر إذعانا في أوقات أخرى وفي حال أفضل إذ يتحول إلى مجرد مريض اعتيادي "مزمن". ولم يكن يستطيع ربط حذائه وكان نادرا ما يتحدث.
في "رسالة إلى رجل" لا نرى أي شيء عن هذا الجزء من حياته. بل يعيد لنا ولسن، في المشهد الأخير، وبدلا عن ذلك، نيجينسكي الظريف وغير الشريف كما كان في بداية العرض وهو يؤدي مقاطع من رقصات بحذائه الجلدي الذي نراه بكل وضوح. وخلفه نشاهد خشبة مسرح بستارة حمراء. وبعدها يلوح متحديا بإشارة وداع موجهة لدياغيليف ("لستَ ملكا بل أنا الملك") ويؤكد له بأنه يعمل وبأنه في وضع جيد بدونه ثم ما يلبث أن يختفي وراء الستار. وكان هذا المشهد باردا بعض الشئ ولكن، وكما هو الحال مع امتداد الجليد، ما كان يبدو بعيدا أو باردا، يتحول هنا إلى فعل تسامح وانضباط، وهو الفن بعينه.&
&