&القسم الأول
&
يحيى السماوي ظل وفيا لشعره قرابة أربعة عقود أو أكثر ، لم يشتهر في غزله فقط بل عرفه وجدانه ، وطنيته ، صوفيته ومرابع صباه التي تغنى بها كثيرا ، فهو حينما يلقيه على أسماعنا بجميع أغراضه فإنما يقصده بدليل عديد دواوينه التي زادت على العشرين ديوانا خلد من خلالها كذلك ، نخلة بيته الباسقة المورقة وخبز أمه وتنورها المسجر حتى رحيلها ، والسماوة الآه المتربعة في صدره ، وبغداده التي له فيها دمعة كبيرة .
هو بدأ مسيرته كشاعر منذ وقت طويل يعود إلى ستينيات القرن الماضي حيث سكن الشعر معه منذ دراسته المتوسطة ، أصدر ديوانه الأول " عيناك دنيا " عام 1970 ليتوج تلك المسيرة بديوانه الأخير " ثوب من الماء لجسد من الجمر " الصادر عن دار تموز في دمشق &، ومابين ذلك العام السبعيني وبين عامنا الذي رحل 2016 تعيش في المخيلة الشعرية مئات من قصائده وومضاته &لم تخبو جذوتها طيلة أكثر من 46 عاما ، ولا استكانت آهاته ودموعه التي عرفت طريقها إلى المتلقي الغربي عبر عديد ما ترجم له من شعره الذي تناوله النقاد قراءة وبحثا ودراسة منهم علي جواد الطاهر ، عبد العزيز المقالح ، فاروق شوشة ، البروفيسور توماس شايكوت ، روب ووكر ، داون كولسي ، شوقي مسلماني وآخرون .
السماوي جرب صنوف الشعر جميعا في كل ما قدمه في دواوينه التي أصدرها : منها العمودي ، الحر ، المرسل ، التفعيلة ، قصيدة النثر ، هنا في ديوانه الصادر حديثا يأخذنا الشاعر بالطواف حول قصائده من دون إهداء أو مقدمة التي جعلها في الغلاف الأخير منه ، لأنه لا يريد أن نتأخر عن الدخول إلى قصائده بنفس اللهفة التي تناولها لنجد أنفسنا أمام مفتتحها " أخاف عليّ مني " :
ندمي مرير يا صديقي البحر
جئتك مستجيرا
حاملا كفني وكافوري
فكن
تابوت أسراري
القصيدة مقطعة أبياتها بطريقة السلم الموسيقي وكأن السماوي يعزفها جرحا جرحا من جراحاته التي لا يتوقف نزفها ، كما أنه حملها استعاراته
الموحية بنهج فردي تميز به :
وكاهني الشهيد على اعترافاتي
فقد ثقلت ذنوبي
فعسى أكفِّر
عن خطيئات اتخاذي الطهر قنديلا
ونبضا للفؤاد العشق
في عصر الجنوح عن الهيام الصدق
نحو مفازة العشق الكذوب
والشاعر بهذه القصيدة الطويلة يصور العاطفة خوفا إذا ما وسوس لها وهو تحول مجازي تجاوز فيها السماوي المثيرات اللفظية ومهيئا لها في الوقت المناسب مسرح التمكين اللغوي والذي سنلتقيه حتى نهاية القصيدة ، ولأنه يقف بها عند تناقضات الحياة فهو يبوح من خلالها بجميع ما يختزنه من آلام وأفراح ، وحتى في عواطفه ومناجاته نجده يذهب ليؤرشف حالات هي الأقرب لمعاناته كما في : " قاب فردوس لا أدنى " أو " ما العمر إلا ما تعاش مسرة " أو في " شرك غير آثم " أو في " خبئيك عني " أو " تقرب يا بعيد " نقرأ منها :
خبرتك &في الهوى قلبا &حنيفا
وما &أنا &قبل &حبك & بالحنيف
ولي عذري إذا حطمت كأسي
وأدمنت &استقائي &من &نزيفي
رأيت &الدار &يملكها & &غريب
وقد غمز الوضيع من الشريف
في قصيدة &" قسمة ضيزى " ينتقل بنا السماوي في صفحة من صفحات ديوانه الذي بأيدينا ليقف معبرا عن شكواه وهو يتأمل ما آل له وضع بلاده بعد أن كان يأمل أن تغييرا حقيقيا يمكن أن ينسيه عجاف السنين التي قاسها ، والقصيدة ذاتها تذكرني بالمونولوج الشعبي الدارج ، لكنها هنا بكامل أناقتها اللغوية وموسيقاها حيث يقول :
كنا وكان
في سالف &الفقر &المقدس
قبل دولار النعيم السحت
والجاه المدنس
والخنوع لرب كرسي السعادة والمعالي
والفخامة
وانبهار الطامعين
بضوء تبر الصولجان
والفتية الغلمان
أبناء الخليفة والعشيرة
والدراويش
الذين استبدلوا الجلباب
بالسروال
والذكر المقدس
بالأغان
حتى اختتامه لها حيث يقول :
إلا ولاة الأمر في دار الخلافة
والدهاقنة السمان
لهم الرغيف
وللرعية من تنانير الفراتين
الدخان .
ونحن نقلب ديوانه تستوقفنا قصيدته النونية &" حديقة الجنون " التي صاغها على ذاك السلم الموسيقي الرائع الذي تحدثنا عنه ليأخذنا إلى حديقة أخرى من حدائقه معاتبا ومجلجلا :
أيتها العفيفة الطاهرة الآثام
والقديسة
الناسكة المجون
تدرين أن العشق
في عصر فتاوي الذبح
أضحى تهمة
وأنني الخارج في فقه الدراويش
عن القانون
إلى أن يقول :
وها أنا
خلعت عقلي
وارتديت بردة الجنون
مبشرا
بجنة الضحكة والقبلة
والمائدة التي يكون خبزها
أكبر مما يمنع الماعون