يجاهد النظام السوري ليوحي بأن الحياة طبيعية في عاصمته دمشق، لكن دوي القصف المستمر وانفجار السيارات المفخخة يطيحان بكل جهوده. ويعيش الدمشقيون على أمل حصول حلّ سياسي لأزمة بلادهم قبل أن تصل شرارة المعارك إلى العاصمة فتهدمها، كما حلب.


قد يكون صعبًا تحديد مصدر الصوت، لكن من المستحيل ألا يسمعه أحد أينما كان في دمشق. فطيلة ساعات النهار والليل، يمكن سماع هدير المدافع أو الصواريخ أو الطائرات تدكّ مواقع المعارضة. إنه صوت الحرب، الذي يقترب من العاصمة السورية.

تقع أهداف النظام السوري على قوس، يمتد من ضاحيتي دوما والقابون في الشمال، حيث قال فصيل معارض إن عشرة أطفال قُتلوا في غارة جوية يوم الأحد، إلى داريا في الجنوب، حيث خلّف هجوم يوم الجمعة عمودًا من الدخان الأسود فوق التضاريس المغسولة بأشعة الشمس. وقالت وسائل إعلام النظام إن أوكارًا إرهابية فقط أُصيبت في الهجوم.

اعتادوا الدويّ
بعد ما يربو على عامين من الأزمة السورية، أطول الانتفاضات العربية وأشدها دموية، أصبح تجاهل صوت الموت والدمار هو الوضع الطبيعي في دمشق. فالقابون لا تبعد إلا 20 دقيقة عن وسط العاصمة السورية. وما زال بالإمكان رؤية رجال يستظلون أشجار النخيل، ويدخنون الشيشة في إحدى الحدائق، وأطفال يلعبون بين الزهور، وأزواج يتبادلون الحديث على المصاطب، فيما يخترق سكون العاصمة دوي الانفجارات الشديدة على بعد كيلومترات قليلة، ويتصاعد الدخان بين المآذن المرتفعة. ولكن يبدو كأن الدمشقيين لا يلاحظون ذلك.

وقال جورج، وهو فني متخصص في تكنولوجيا المعلومات، من قرية ساحلية ذات غالبية علوية، إن المرء يعتاد مثل هذا الوضع. وأضاف لصحيفة غارديان: quot;لكنك لا تعرف أبدًا ماذا يقصفون على وجه التحديدquot;. فعادة ما يتضح الموقع المستهدف من أشرطة الفيديو، التي يبثها إعلام المعارضة على يوتيوب، وتعرض مباني متضررة وجثثًا وصوتًا معلقًا يحدد المكان والتاريخ، مرددًا عبارة quot;الله أكبرquot;.

على ما يرام
النظام يعمل جاهدًا للإيحاء بأن الوضع طبيعي في عاصمته المحصنّة. وقال ضابط في الجيش النظامي: quot;كل شيء هنا على ما يرام، لكن علينا أن نضرب الإرهابيين والمتطرفينquot;.

ونقلت غارديان عن مسؤول سوري، هاجم مقاتلو المعارضة منزله في داريا، قوله: quot;لو كنتُ خائفًا، لأغلقتُ بابي، وبقيت في الداخل، ولكن عليّ أن أعمل، وأنا لستُ خائفًا، وإذا لم أدافع عن بلدي فمن يدافع عنه؟quot;.

لكن مواطنين آخرين لا يتكلمون بلغة التحدي هذه في أحاديثهم الخاصة. وفي وسط إحدى البلدات، قال صاحب متجر بحزن إن طفلته تصرخ عند سماعها صوت القصف.

وتخشى زينة، وهي طالبة في عشرينياتها، أن تفقد إحساسها بالمعاناة، وربما بالخطر أيضًا. قالت: quot;في البداية، أي حين بدأت الانفجارات في العام الماضي، كانت تنتابني الكوابيس، لكنني الآن أستطيع النوم بالرغم من كل الأصواتquot;.

الخطر داهم
تزداد المخاطر في وسط العاصمة. ففي ساحة السبع بحرات، الواقعة في منطقة دمشقية تعتبر آمنة نسبيًا، انفجرت سيارة مفخخة الاثنين الماضي، متسببة في وقوع أضرار مادية بمبنى البنك المركزي الذي إسودَّت واجهته وتحطمت نوافذه من جراء الانفجار.

وأُلصقت على الجدار المقابل لافتات تنعي اثنين من الضحايا الخمسة عشر، الذين قُتلوا في الانفجار، هما محمد الصوفي ومنال الطحان. ويتجول شبيحة مسلحون بالرشاشات في الساحة، التي كثيرًا ما كانت تشهد اجتماعات حاشدة تأييدًا للنظام، يُنقل إليها الموظفون بالحافلات، مرددين هتافات تحت لافتات عملاقة تحمل صور بشار الأسد.

لم يكن انفجار ساحة السبع بحرات أسوأ ما تعرّضت له دمشق مع تردّي الوضع في الأشهر الأخيرة. ففي شباط (فبراير)، أفادت تقارير عن مقتل 80 شخصًا، بينهم تلاميذ قرب مقر حزب البعث في منطقة المزرعة. وما زالت الحفرة التي خلفها الانفجار على حالها.

أُلقيت المسؤولية عن هذا التفجير على جبهة النصرة، التي أعلنت انتماءها إلى تنظيم القاعدة، لتصبّ الماء في طاحونة النظام، الذي سعى منذ البداية إلى تصوير الانتفاضة على أنها مؤامرة، ينفذها إسلاميون متطرّفون وإرهابيون بدفع من دول عربية وغربية.

اختراق الطوق
صار سقوط قذائف الهاون سمة جديدة من سمات الحياة في دمشق خلال الأسابيع الماضية، تُطلق من مناطق يسيطر عليها مقاتلو المعارضة، وضعوا العاصمة في مرمى مدافعهم، ما ينذر بمزيد من سفك الدماء. فهذه القذائف قتلت 15 طالبًا في مطعم كلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق في 28 آذار(مارس) الماضي، ويُعتقد أن الهدف المقصود كان مبنى حكوميًا.

وكان النظام كثف إجراءاته الأمنية منذ تفجير مبنى الأمن القومي في تموز (يوليو) 2012، ومقتل أربعة من قادته العسكريين والأمنيين. وتنتشر اليوم حواجز أسمنتية مطلية بألوان العلم السوري لحماية المباني الحكومية، بوصفها أهدافًا بديهية.

ونقلت صحيفة غارديان عن دبلوماسي غربي قوله إن النظام تمكن من إقامة طوق فولاذي حول دمشق، quot;لكن الاختراقات بدأت تحدث في الطوق لسبب ما، وهذا ينقل واقع الحرب إلى العاصمةquot;.

ويعني هذا كله أن التنقل بات صعبًا، ويستغرق وقتًا طويلًا. فحواجز التفتيش تعطّل حركة المرور. ولا يستطيع استخدام الممرات السريعة لتفادي الانتظار إلا من يحمل تراخيص أمنية خاصة.

الصيف الحار
يحذر السوريون من أن الكثير من سائقي سيارات الأجرة يكتبون تقارير للمخابرات، وأن الثرثرة يمكن أن تؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه. ويبدو من الأسلم الاكتفاء بالتحدث عن الطقس وأجواء الربيع المعطرة بشذى الياسمين على خلفية مثل هذا الصورة السياسية والأمنية القاتمة.

لكن من الصعب تفادي السؤال، الذي يدور في أذهان الجميع، وهو ما إذا كانت معركة ستندلع من أجل دمشق، على غرار المعركة التي ألحقت أضرارًا فادحة بمدينة حلب. وتبدو بعض مناطق العاصمة من الآن وكأنها ساحة حرب. فأفخر فنادقها مهجور، بالرغم من استخدام العديد من غرفه مكاتب لوكالات الأنباء الأجنبية، وتتكدس الخوذ الزرقاء والستر الواقية من الرصاص في صالة الاستقبال، وهي من مخلفات مراقبي الأمم المتحدة مع سياراتهم البيضاء مركونة وراء حواجز أسمنتية في الخارج. وتقفر شوارع دمشق بعد الساعة التاسعة مساء.

خلصت صحيفة غارديان إلى أن معركة دمشق آتية، ولكنها ليست وشيكة، فربما تحصل في الصيف، كما يتوقع البعض، بعدما تكون قوات المعارضة قد عززت مكاسبها في الجنوب. ويرى آخرون أنه من المستبعد أن يُعقد النصر الحاسم لأي طرف، مراهنين على حلّ سياسي يُفرض من الخارج. ولكن قلة من الدمشقيين تتوقع تحسنًا في الوضع.