في حوار شامل مع المفكر السوري المعارض برهان غليون، قال إن الأزمة السورية بدأت صراعًا داخليًا على الدولة، رفضًا لطغيان أربعة عقود، لكنها تحوّلت إلى صراع إقليمي ودولي على سوريا نفسها، في تضارب مصالح يطيل أمد الأزمة ويرفع وتيرة النزيف السوري.


غسان المفلح: بعد مرور أكثر من 27 شهرًا من انطلاق الثورة السورية، يجد المفكر السوري المعارض برهان غليون متسعًا من الوقت ومزيدًا من الأفكار، ليخوض في ما آلت إليه أحوال الثورات العربية، وبينها الثورة السورية، وفي مفاصل الدولة، العلمانية والمدنية، وما لها على المجتمع وما عليها. فهو يقرأ العوامل المؤثرة في سوريا من داخلها، كونه أحد صانعي الحدث السوري، ويقرأ العوامل المصرية والتونسية والليبية واليمنية والبحرينية من موقع المراقب اللصيق، فيدرج الثورة السورية في الربيع العربي الذي جاء رد فعل على نصف قرن من الديكتاتورية والفاشية في المجتمعات العربية، quot;مضمونها الرئيس ولادة الشعب كقوة مستقلة وتحوّله بفعل الثورة نفسها، والتظاهر والتحشد وتوحيد الشعارات والفكر، إلى فاعل رئيس في الحياة العامة والسياسية العربية، بعد تهميش تاريخي وإقصاء كاملquot;.

كما يرى اختلافًا في كل بيئة جيوسياسية عربية حصل فيها تغيير، تداخلت فيها عوامل خارجية، ساعدت على إحداث هذا التغيير، تلعب في سوريا دورًا معاكسًا، تدفع إلى تغذية الحرب واستمرارها، لتتحوّل من صراع على السلطة والدولة إلى صراع على سوريا بين الدول الإقليمية والكبرى.

ما زال غليون يدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية، quot;تستبطن قيم المواطنية والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، وتقود الشعوب الجديدة أو المنبعثة من رمادها خارج تقاليد الطائفية والأحكام المسبقة الجماعية والخصومات المذهبية المحكومة بالذاكرة التاريخية، أي من مجتمعات تفكر في الإنسان وفي المستقبل، ولا تظلّ مقيدة بدروس الماضي السلبية أو بحروبه وصراعاته ونزاعاته التي تجاوزها الوقت، هو عينه ما تصبو إليه ثوراتنا القائمة اليوم، وما يحركها في العمقquot;.

في ما يأتي نص الحوار:

ماذا عنت الثورة السورية للدكتور برهان المفكر والأكاديمي والإنسان الذي عاش حلم التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا منذ بداياته؟
بالنسبة إليّ، الثورة السورية تندرج في ثورات الربيع العربي، التي جاءت بكل بساطة كرد فعل على نصف قرن من الحكومات الديكتاتورية والفاشية التي عرفتها المجتمعات العربية. وكان مضمونها الرئيس ولادة الشعب كقوة مستقلة، وتحوّله بفعل الثورة نفسها، والتظاهر والتحشد وتوحيد الشعارات والفكر، إلى فاعل رئيس في الحياة العامة والسياسية العربية، بعد تهميش تاريخي وإقصاء كامل، ودخول الشعب في دائرة الحياة العمومية والسياسية، وهو جوهر الحداثة السياسية وخروج ممارسة السلطة من أيدي نخبة مغلقة أرستقراطية أو عسكرية أو أوليغارشية أو مخابراتية، تتدخل يوميًا لردع الشعب وتحييده، كما كانت الحال في أواخر عهد الديكتاتورية العربية. ولا تدخل الشعوب في الحلبة العمومية والسياسية في صور وأشكال وصيغ واحدة، وإنما بصور مختلفة، ترتبط بالسياق العام وبإرثها السياسي والثقافي، ومحددات وجودها الجيوسياسية ومواردها الاقتصادية، إضافة إلى المفاجآت التي يمكن أن تواجهها.

كيف ترى الربيع العربي ثوريًا؟
مرت الأمور ببساطة نسبية في تونس ومصر، حيث توجد تقاليد تعددية قوية نسبيًا، وحد أدنى من تقاليد السياسة وحكم القانون وبيرقراطية الدولة، وفي بيئة جيوسياسية بسيطة ومستقرة. وكان يكفي هرب الرئيس أو انسحابه من السلطة للدخول في حقبة جديدة، من دون أن يعني ذلك إنجاز مهام للثورة. ويعيش هذان البلدان الآن مرحلة الصراع على مستوى المجتمع والرأي العام لحسم مسألة توزيع السلطة وإعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، وتحديد منظومة القيم الأساسية للدولة الجديدة والنظام الجديد.

في ليبيا التي خضعت لنظام قضى كليًا على تقاليد السياسة ومفهوم الدولة والإدارة، لم تجر الأمور بالطريقة النظيفة نفسها، وفتحت الثورة الشعبية الباب أمام مواجهة عسكرية، بدأها النظام، وتعمقت مع اتساع دائرة الانشقاقات العسكرية والسياسية، ودخلت البلاد في حرب أهلية، كان من الممكن للنظام أن يحسمها لمصلحته ويقضي على الثورة لولا التدخل الخارجي العسكري. وهو التدخل الذي سهله المخزون الليبي الكبير من النفط، وقدرة ليبيا على مكافأة الدول الغربية، وغياب المخاطر غير المنظورة. فتم حسم الصراع عسكريًا لمصلحة نظام جديد، لكن الصراعات السياسية والأيديولوجية لا تزال مستمرة، وستحتاج ليبيا وقتًا أطول حتى تنجح في التوصل إلى عهد وطني وإلى استقرار راسخ.

في اليمن لعبت البنية القبلية الراسخة والبيئة الجيوسياسية الحاضنة لدول الخليج دورًا كبيرًا في دفع اليمنيين ثوارًا وحكامًا إلى تسوية تحقق التغيير، وتفتح الطريق إلى الاعتراف بسيادة الشعب ومشاركته. أما في البحرين فقد حسم الأمر لمصلحة النظام الملكي من البداية، بسبب وجودها على حدود شرخ جيواستراتيجي حاد، بين إيران والخليج العربي. في سوريا اجتمع الصدع السياسي، الذي يكاد يكون مطلقًا بين النظام والشعب، مع الصدع الجيوسياسي الذي لا يقلّ قوة، بين إيران الخمينية الطامحة إلى استعادة السيطرة الإقليمية وبقية البلدان العربية، وعلى رأسها الخليج، ليرمي الثورة في حضن صراع إقليمي، لم يلبث حتى تعزز ببروز صراع دولي على الهيمنة العالمية، شجّع عليه الموقف المتراجع للولايات المتحدة، وضعف موقفها العالمي بعد إخفاقاتها العديدة في أفغانستان والعراق وغيرهما.

الدور المعاكس
وما دور هذه العوامل مجتمعة في الأزمة السورية؟

العوامل الجيوسياسية التي دفعت إلى حسم الحرب في ليبيا بسرعة التدخل الغربي، وفي البحرين بوقف ديناميكية الثورة منذ البداية بتدخل خليجي، تلعب في سوريا دورًا معاكسًا، وتدفع إلى تغذية الحرب واستمرارها، لتتحوّل من صراع على السلطة والدولة إلى صراع على سوريا بين الدول الإقليمية والكبرى. وهكذا دخلت الحرب السورية في ديناميكية توسعية، وأصبح حسم الصراع في الداخل مرتبطًا بحسم الصراعات الإقليمية والدولية أو التوصل إلى تفاهم حولها. ولا يهدف اتفاق جنيف 2 إلا إلى فتح نافذة للتفاوض بين الدول الكبرى نفسها، مستغلة الصراع السوري للتوصل إلى تفاهم أصبح مقدمة ضرورية لوقف الحرب السورية.

وحقيقة جنيف مختلفة عن ظاهره، حيث يفترض بالدول الكبرى التوصل إلى تسوية تضمن مصالحها. والحال أن سلوك الروس على الأرض يناقض هذا التصور عن جنيف تمامًا، ويؤكد أنهم، من خلال دعمهم النظام بكل الوسائل ودفاعهم عنه والسعي إلى تمكينه من الحسم العسكري والانتصار، يريدون أن يضمنوا مصالحهم ومصالح حلفائهم في المنطقة، وبشكل خاص إيران. وفي المقابل لا يبدو أن الأميركيين مهتمون كثيرًا بانتصار الثورة، وإن كانوا مضطرين إلى الوقوف في وجه انتصار للنظام، يكرّس انتصار إيران التي تهدد حلفاءهم في الخليج. الشعب السوري على حق عندما يقول إن الثورة السورية يتيمة، ليس لها سوى شعبها، وإن عليها كي تحقق أهدافها أو الجوهري منها، وهو ضمان حقوق الشعب في اختيار قادته بصورة ديمقراطية دورية، أن تبحر بين الصخور والألغام العائمة والغميقة. وهذا يفسّر درجة اتساع نطاق العنف غير المسبوق، الذي ميّز الثورة السورية وغياب الحسم فيها، بعد ما يقارب السنتين والنصف من اندلاعها، والالتباس المتزايد الذي يحيط بأهدافها ونتائجها مع تدخل فاعلين إقليميين ودوليين، رسميين وخواص، بشكل متزايد فيها.

وماذا بعد؟
الثورات الحقيقية، كما هي الحال في سوريا، ليست نزهة، كما يصوّرها الحالمون، وإنما هي دخول في جحيم صراع غير محدد الطريق، ولا مضمون النتائج. هي ملحمة كبرى تتعلق برسم الشعوب مستقبلها ومصيرها، لذلك تتردد الشعوب عشرات السنين قبل أن ترمي بنفسها في أتونها. ولا تغامر بالانخراط في الثورة إلا عندما تشعر بأن هناك حظوظًا كبيرة في الانتصار فيها.
ثورات الياسمين ظاهرة جديدة، أساسها انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كان يعتمد في بقائه على نخبة صغيرة قمعية مرتبطة بسلطة موسكو المركزية وأجهزتها الأمنية. وعندما زالت هذه السلطة، انهارت النظم الملحقة بها كقلاع من الكرتون.
هذه ليست حالنا في سوريا، بل العكس هو الصحيح، إذ تسعى روسيا، من خلال أخذ سوريا وشعبها وثورتها رهينة، إلى استعادة مركزها الدولي، الذي كان لها أيام الاتحاد السوفييتي، ومعه ثنائية القطبية التي ميّزته.

أول الطريق
انشغالك الفكري ونتاجك شكّل بالنسبة إلى الأجيال الثقافية والسياسية مرجعًا في قضايا الدولة المدنية والديمقراطية والعلمانية والحرية والطائفية والأقليات والمواطنة. كيف ترى الأمر الآن وأنت تعيش الاختلاف مع هذه الأجيال نفسها؟
ما كنت أدعو إليه في كتاباتي من دولة مدنية ديمقراطية تستبطن قيم المواطنية والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية وتقود الشعوب الجديدة أو المنبعثة من رمادها خارج تقاليد الطائفية والأحكام المسبقة الجماعية والخصومات المذهبية المحكومة بالذاكرة التاريخية، أي من مجتمعات تفكر في الإنسان وفي المستقبل، ولا تظلّ مقيدة بدروس الماضي السلبية أو بحروبه وصراعاته ونزاعاته التي تجاوزها الوقت، هو عينه ما تصبو إليه ثوراتنا القائمة اليوم، وما يحركها في العمق. والربيع العربي، سواء اختطف أو انحرف أو أغرق في دماء الشعوب، يظلّ القفزة الأولى التي قفزتها شعوبنا نحو المستقبل، ومدخله إنجاز الثورة السياسية، أي ببساطة أخذ الشعوب لمصيرها بيدها، وتعليمها مبادئ الاحترام والسيادة والتضامن والوحدة السياسية والمسؤولية العمومية. فمن دون ذلك لن يكون هناك تقدم، وسنظل ندور في تكرار الماضي وإعادة إنتاجه، كما فعلنا في انتكاستنا في نصف القرن الماضي، وسننتقل من ديكتاتورية إلى ديكتاتورية جديدة، ومن سيطرة طغمة فاسدة إلى سيطرة طغمة أفسد. فلا حرية ولا قانون ولا تقدم من دون شعوب واعية لمصالحها وممسكة بمصيرها وسيدة للدولة التي تتحكم بها، والتي تشكل في عصر التقدم التكنولوجي آلة جبارة للقهر والقمع والتدمير الشامل إذا لم ينجح المجتمع في السيطرة عليها وتقييد يد النخب التي تسيّرها.

هذا يعني أيضًا أننا دخلنا في المسار التاريخي، الذي يقود شعوبنا إلى عالم السيادة والسيطرة على آلة الدولة الحديثة والتحكم بها ومنعها من أن تتحوّل إلى أداة استلاب وإذلال وتجريد من الحقوق والحريات لجميع الأفراد. سيأخذ ذلك وقتًا وتضحيات إضافية، وربما انتكاسات وثورات مضادة، لكن أعتقد أن العرب وضعوا قدمهم على أول الطريق.

هل تلمس التباسًا لدى بعض المهتمين بالشأن العام في صفوف الثورة بين الدولة المدنية والدولة العلمانية؟
نعم حصل التباس كبير في الثقافة العربية الحديثة بين العلمانية والدين، لأسباب تتعلق بالسياق التاريخي والثقافي والسياسي معًا، فصارت العلمانية تعني عند عامة الناس أو الشعب البسيط، المتدين وغير المتدين، رفض الدين والعداء له والعداء للمتدينين ولرجال الدين. وقد مثل هذا الالتباس فخًا حال دون التطور الطبيعي للفكر وللقيم وللحقل السياسي العربي. العلمانية في معناها الجوهري الأصيل مرتبطة بنظرية الدولة الحديثة، دولة المواطنين والمشاركة السياسية والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات. فالدولة لا تكون دولة مساواة إذا أعطت الأفضلية لدين أو لمذهب من المذاهب، وبالتالي لأصحابهما، ضد الأديان والمذاهب الأخرى، التي لا تخلو منها دولة تشكلت في أي مكان. وحتى تكون دولة مساواة ينبغي أن تتعامل مع أفراد المجتمع بوصفهم مواطنين، أي من حيث هم أخوة في الوطنية لا في الدين. فالوطنية جامعة، والدين مفرّق بالضرورة. لكن إذا بقينا على مستوى العلاقة الدينية من المستحيل أن نصل إلى إطار موحد للجميع، يتيح لكل إنسان الحق أي الحرية في الاحتفاظ بعقيدته بلا اضطهاد. وبينما تحتاج الأخوة الدينية وحدة العقيدة والانتماء لبناء العصبية الخاصة، لا تولد مشاعر الأخوة الوطنية أو في الوطن إلا من الخضوع للقانون، وهو بالضرورة قانون واحد، والالتزام بقواعد سلوك وعمل تؤمّن وحدة المجتمع وتعاون أفراده على تحسين شروط وجودهم جميعًا. بهذا المعنى صارت الدولة هي الفضاء الجديد، الذي يمثل إطار الوحدة بين المختلفين في الدين، وصار للفرد انتماء وبعد إضافي لم يكن موجودًا من قبل هو بعد المواطنة، ما نسميه الإطار المدني، أي إطار الانتماء إلى الدولة ومن ورائها إلى القانون الواحد والمواطنة الواحدة، من دون تمييز على أساس العرق أو الدين.

الديمقراطية الناظمة
هل من تضاد بين المواطنة والانتماء الطائفي ضمن الدولة؟

لم تلغ الدولة المدنية، أي دولة المساواة في المواطنة، بصرف النظر عن الانتماء الديني، رابطة الأخوة الدينية، ولا تحتاج العداء للدين ورجال الدين حتى تتحقق، لكن وجودها مرتبط بوجود القانون. فعقد المواطنة هو عقد التزام بالقانون الذي يعني قبول الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات، والتعاون في إطار القانون على تحقيق مصالحهم العامة، التي تفيد الجميع مع ترك المصالح الخاصة خاضعة لحرية الأفراد والجماعات حسب إيمانهم وعقيدتهم واقتناعهم. الدولة بالمعنى الحديث، المدني، لا تنزع عن مواطنيها الحقوق والواجبات والالتزامات التي تعطيها إياهم اعتقاداتهم وجماعاتهم الدينية من إقامة شعائر الدين والتضامن والتعاون في ما بينهم والحضّ على الخير والتقوى، لكنها تعتبر أن هذه الحقوق والواجبات مفروضة على أصحاب المذاهب والديانات في ما بينهم. أما في ما يجمعهم مع الجماعات الأخرى، هو ما تقتصر الدولة عليه. فهي تطلب منهم الالتزام بقواعد السلوك والقوانين الشاملة للجميع. لا تأخذ الدولة من مواطنيها حقوقهم الدينية أو الخاصة، لكنها تقيم شرعيتها على تقديم حقوق جديدة لم يكن الأفراد يعرفونها من قبل، ولا الأديان قادرة على توفيرها، هي الحقوق السياسية والمدنية المستمدة من الانتماء إلى الدولة ومن المشاركة في عقد المواطنة، ومنها حق الترشح والانتخاب والمشاركة في الحياة العامة والحريات الأساسية وحق تشكيل الأحزاب والجمعيات. لذلك عندما تنحلّ الدولة أو تنهار لا يبقى شيء من هذه الحقوق السياسية، بينما يظل الأفراد يتمتعون بمنظومة الحقوق والواجبات المرتبطة بالجماعة الدينية التي ينتمون إليها. والفكرة الناظمة لهذه الحقوق والواجبات السياسية التي من دونها لا يمكن قيام مجتمع مدني هي الديمقراطية، التي تحدد إطار حماية حياة الأفراد وحقوقهم من خلال منظومة قانونية لا تقتصر على تشريع القوانين فحسب، ولكنها تضمن تطبيقها وتحمي حقوق الأفراد في الدفاع والمقاضاة ومنظومة العدالة والأمن العام بكاملها.

وماذا عن الدولة العلمانية؟
ليست معاداة الدين، التي ارتبطت بالدولة المدنية أو العلمانية، فكرة خاطئة فحسب، لكنها مجافية للحقيقة، لأن المبرر الوحيد ومصدر شرعية الدولة المدنية نابعان من حمايتها للحريات الدينية، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون إطار قانوني يضمن تعايش الجميع وحرية العقيدة وتجريم أي إضطهاد بسبب العقيدة او العرق. ما تعترض عليه الدولة المدنية ليس الدين، ولا رجال الدين، وإلا أصبحت فكرة مختلة معادية للمجتمع، الذي يحتضن الدين ورجاله، وإنما سيطرة رجال الدين أو أي سلطة روحية، لا يمكن فهم منطقها ولا محاكمتها عقليًا ولا السيطرة على رجالاتها، على الدولة. فلو حصل ذلك زالت السياسة كإطار عام أو أشمل يضم الأديان إلى دين وسلطة دينية. والحال أن رجال الدين يمكن أن يوحدوا الجماعة العقيدية، لكنهم لا يمكن أن يوحدوا أصحاب الديانات المختلفة. كما إن من شأن ذلك أن يخفض منطق السياسة المفتوح للاختلاف لمنطق الدين المقتصر على المؤمنين بعقيدة واحدة، وأن يتم الخلط بسهولة بين مهام الدولة المادية ومهام الدين الروحية، ما يهدد مفهوم الدولة كفضاء عام جامع، ومن ثم وجود الجماعة الوطنية نفسها ووحدتها. كنت أول من اقترح استخدام مفهوم الدولة المدنية في كتابي نقد السياسة: الدولة والدين (1990)، لتجنّب التشويش والخلط والالتباس، الذي أصبحت تنطوي عليه فكرة الدولة العلمانية.