قرأت مقالتين في يوم واحد أحدهما للكاتب الدكتور احمد التيهاني بجريدة الوطن السعودية& تحت عنوان (نجران فوق التمذهب)والأخرى للكاتب محمد الساعد في جريدة الحياة بعنوان(نجران تحت الصفر) وكان موضوع& المقالتين هو الحدث الإرهابي في مسجد المشهد بنجران ومفتاح المقالتين هو الروائي العربي الشهير وصاحب رواية نجران تحت الصفر التي كتبها في الستينات الميلادية عندما كان معلما في أحد المدارس النجرانية ،حين كانت نجران قبل طفرة النفط خالية من الشوارع المزفلتة والعمارات الحديثة وان كانت عامرة بإيمانها الخالد وخيرات بساتينها الغنية& بكل أنواع الفواكه وبتمور نخيلها الباسقات وماتزرعة الأرض الطيبة من صنوف الغذاء وقد حباها الله بعذوبة المياه وهواء معتدل نقي تنساب نسائمه العليلة لتخترق عروق الصدر حين يغص بالألم ومرارة الحزن فتحيله الى روضة من رياض الاطمئنان والسلام والمحبة والشعوربالإعتزاز والفخر.
&كما حباها الله عز وجل تاريخا موغلا في القدم المرصع بالوقار الإيماني ينعكس على أجوائها& فتهتز له كل& نفس مؤمنة حين تطأ قدماها تلك الأرض المباركة التي كرمها الله كأقدم المدن المقدسة التي آمنت بكل الرسالات السماوية وأن الله الخالق الأحد وبالأنبياء موسى وعيسى ومحمد دون أن تكفربالله قط ولم تكفر بآدمية الإنسان وكرامته وحريته فتميزت عن سائر المدن بصدرها المتسع لكل الاختلافات كأجمل مكان للتعايش يشعر فيه الغريب برغم هيبة المكان ووقاره وصلابة الإنسان النجراني: أنه صاحب الأرض مابقي ضيفا أو مقيما أو زائرا.
وعلى مرتاريخ نجران& كانت نهايات الخائنين والغادرين والمعتدين عندما تتجه بوصلة حقدهم وسكاكين غدرهم وعدوانيتهم نحو أرضها الطاهرة التي كرمها الله كأقدم مدينة للشهداء دفاعا عن الحرية والحق والمبدأ . وليتذكر& كلامي هذا كل صاحب عقل يتدبر المعاني : أن الذين غدروا بنجران وكل من تحامل واعتدى على حرمتها وقدسيتها وطهارة أهلها وشارك في الغدر بها سيحل بهم ماحل بذي نواس وجنوده حين غرقوا في البحر ولعنهم الله والتاريخ وبقيت الاخدود شاهدا على نصر الله& للمؤمنين الذين تأبى أنفسهم أن تبيع مبادئها أو تتنازل عن حريتها أيا يكون الثمن ، وظلت نجران& منذ قرون بائدة ، شامخة بجبالها الشم وناسها& الذين يشبهون جبالهم في الثبات ويتصفون بالحلم& والأناة والقوة الواثقة.
من نجران ..يبدأ التاريخ كتابة سيرته الجديدة.. وعلى أسوارها ينقرض الغزاة والقتلة والمعتدون .. ويتشكل عصر جديد ،لأن نجران ليست مدينة عادية ومن أصداء جبالها لايزال المؤمن يسمع قرونا من أصوات أجراس الكنائس المؤمنة يوم كانت تقرع منادية بإسم الله ، مثلما هو يسمع& الآن أذان المساجد الذي تخشع له النفس الزكية حين ينساب بين النخيل والبساتين منطلقا من حنجرة مؤذن لايهوى استخدام الوسائل الحديثة والجبال تردد خلفه صدى صوت الحق الذي أوقفه الارهابي بين المغرب والعشاء ليلة غدره .لكن الارهابي ذهب& وفكره ومنهجه ومن أيده الى مزبلة التاريخ وبقيت نجران ونخيلها وبساتينها وأخدودها ومساجدها شاهدة على ذي نواس القرن الواحد والعشرين ، ولتكتب تاريخها الجديد في صفحات أكثر صفاء ونقاء وسلام ووئام، وقد اندحر الظلام في يوم غزوته الملعونة .
&ومثلما كانت نجران بوابة حصينة لوحدة وطن ،ستكون أيضا شمسا تحترق تحت أشعتها الأجنحة المحلقة في الظلام ،كعادتها على مر التاريخ منذ أن هم المعتدون قبل قرون بإحراقها فاحترقوا ..وغرقوا... وخُذِلوا ، وصعدت أرواح الشهداء الى خالقها وهبطت على أرضها& أرواح الملائكة.
سأرفق لكم في نهاية مقالتي& هذه ، رسالة الأديب والروائي العربي الشهير.. الأستاذ الكريم/ يحي يخلف& ، مؤلف رواية نجران تحت الصفر.
أرسل رسالته& من فلسطين الحبيبة .. التي كنا صغارا نردد شعر الشوق اليها ونأمل أن تتحرر من رجس الإحتلال ، فأنشغلنا عنها بصهاينتنا.. الذين احتلوا فكرنا بالكراهية، وشوهوا معالم وجداننا النقي ، حتى أصبحنا بفعلهم القبيح يلعن بعضنا بعضا .. ويكفر بعضنا بعضا ..ويقتلوننا.. وكل أملهم أن ننسى فلسطين .
سرقوا أحلامنا وصادروها الى ماض خاص بهم ،يشبههم في كل شيء وينهلون منه كل شيء إلا السلام والجمال والحرية والعدل والمحبة والإيمان الحقيقي... تغيضهم الوردة.. لو فاح عطرها .. ويغضبهم العصفور لوغنى بشاعرية فوق غصن أخضر.. ويزعجهم خرير الجدول.. فيحكمون على الورود بالإعدام.. وعلى العصافير& بالشنق .. وعلى الجداول بالتجفيف .
جفت ينابيع مشاعرنا لوجودهم بيننا ، يفتشون في شرايين قلوبنا عن عاطفة نبيلة ليحيلوها الى مشانق عدلهم ، وينصبون الكمائن لحروف قصائدنا قبل أن تتشكل على دفاترنا ، فتتخضب الكلمات بالدماء قبل أن تُعلن ولادة القصيدة ، ويتحزمون بالناسفة عشقا في جنة الآخرة التي وعدهم بها تاجر يشتري الأرواح الرخيصة كي يفوز بجنة الدنيا وغير مؤمن أو مبال بشيء في الآخرة.
لكنني& أولا .. سأهدي الأستاذ يحي يخلف وأهديكم بعض أبيات قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل عبدالكريم الكرمي.. وقد تذكرتها بكل معانيها المتجددة يوم كنا نغنيها كالطيور حين تشدوا وهي تعانق أشعة الصباح .. فتعلقت قلوبنا بفلسطين ولم ندري أننا سننشغل عنها بسبب من يغرس المرارات والخيانات لتبقى فلسطين بكل أسف مجرد قصة عابرة في وجدان الأجيال الجديدة يشارك في كتابتها (المارون عبر الكلمات العابرة) كما يقول محمود درويش !
بل أنني أخشى أن يكون المارون قد طاب لهم المكان وأنغرسوا في الأرض في& زمن يتحالف فيه المارون هنا وهناك .. لكننا سنردد مع درويش قوله لكل المارين والخونة : أن يمروا بيننا كالغبار .. ولكن لاتمروا بيننا كالحشرات الطائرة.
وسنردد للمارين هنا وهناك قول درويش أيضا :
فلنا ماليس يرضيكم هنا، فانصرفوا .. ولنا ماليس فيكم: وطن ينزف وشعب ينزف
آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لاتقيموا بيننا .. ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا مانعمل..ولنا الماضي هنا.. ولنا صوت الحياة الأول.. ولنا الحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا .. و الآخرة.. فاخرجوا من أرضنا .. من برنا..من بحرنا..من قمحنا..من ملحنا..من جرحنا
من كل شيء ، واخرجوا من مفردات الذاكرة... أيها المارون بين الكلمات العابرة!
أما قصيدة الشاعر عبدالكريم الكرمي فتقول:
&فلسطين الحبيبة كيف أغفو وفي عيني أطياف للعذاب
تمر قوافل الأيام تروي مؤامرة الأعادي وأصحاب
تناديني السفوح مخضبات وفي الآفاق آثار الخضاب
تناديني الشواطئ باكيات وفي سمع الزمان صدى انتحابي
ويسألني الرفاق ألا لقاء؟ وهل من عودة بعد الغياب
أجل سنقبل الترب المفدى وفوق شفاهنا حمر الرغاب
غدا سنعود والأجيال تصغي الى وقع الخطا عند الإياب
نعود مع العواصــف داويــات مـع البرق المقدس والشـهاب
مع الأمل المجنح والأغــــاني مع& النســــرالمحلق والعقاب
مع الفجر الضحوك على الصحاري نعود مع الصــباح على العباب
&تذيب الـــقلب رنـــة كل قيد ويجرح& في& الجوانـــح كل ناب
&أجل ستعود آلاف الضحايا .. ضحايا الظلم تفتح كل باب !
&وقد خصني الأستاذ القدير برسالته وله كل الشكر والامتنان ، معزيا نجران التي عشقها وأهلها الذين بادلهم الود وكثيرا مايسأل عنها وعنهم متمنيا للجميع كل الأمن والسلام والمحبة بعد أن قرأ مقالتي الكاتبين الكريمين اللتين تزامنتا بذكره وروايته الشهيرة بعد العمل الارهابي الخسيس الذي ارتكبته النفس الشريرة ،تلك النفس التي تتعبد لله كعقيدة : بقتل المصلين في المساجد ، وذلك هو دين جديد لم تعرفه البشرية من قبل ، أوغل في دماء الناس وله دعاته ومريدوه ومنهجه ... لكنه بدأ النهاية الحتمية له منذ أن غدر بالمدينة المؤمنة !

‏تلويحة محبة لنجران وأهلها وتاريخها الحضاري والإنساني !

‏منذ فترة وأنا أتابع ما يجري على حدود المملكة، وخصوصا ما تتعرض له مدينة نجران التي تسكن قلبي منذ أن أكلت من زادها، وشربت من مائها، ومشيت فوق ترابها، وتعرّفت على إنسانها،وأتابع آثارالحرب على مدارسها وأسواقها وبيوت سكانها ،وأقلق كما يقلق كل مواطن عربي ،وأتعاطف مع الضحايا الأبرياء الذين سالت دماؤهم على ثرى ترابها الطاهر،وفي الوقت نفسه أفخر بقوّة الحياة في روح شعبها،وبالصمود العظيم الذي يتحلون به.
‏وعندما وقعت العملية الإرهابية في مسجد المشهد أدنتها كما أدانها كل مواطن عربي،وكل مثقف حر،ونظرت الى من فعلها باشمئزاز،فلقد مثّلت مظهرا من مظاهر التوحّش ،وإدارة التوحش للتنظيم الإرهابي الداعشي.
‏لقد عشت في نجران أيام شبابي المبكّر،وتعرّفت عن قرب على ناسها وسكاّنها وطلبتها الذين كنت أدرّسهم في مدرسة متوسطة نجران،وكانت نجران في ذلك الوقت منطقة عسكرية تتحمل أوزار الصراع الدائر في اليمن،وعرفت في أهالي نجران السجايا العالية للإنسان السعودي، من طيبة وخلق كريم وتآلف وتضامن ووحدة وانتماء،ولم يكن هناك أي مظهر من مظاهر الصراع المذهبي أو الاحتقان الطائفي، وكان الانتماء للوطن سمة بارزة من سمات السلوك في تلك الأيام، ولا اعتقد أن مثل هذا الأمر برز على السطح في تاريخ المدينة،وأنا أتواصل مع العديد من الأصدقاء على وسائل التواصل الاجتماعي،فالتوحّد الذي ألمسه توحّد عز نظيره.
‏وأود هنا أن أشكر كل الأصدقاء الذين كتبوا انطلاقا من روايتي عن نجران،وأحب هنا أن أؤكد على ماسبق أن قلته في الصحافة من أنّ نجران لم تعد تحت الصفر،فزمن روايتي يعود الى منتصف ستينات القرن الماضي عندما كانت نجران مدينة مهمّشة يسودها الفقر والإهمال وغياب البنى التحتية من ماء وكهرباء وشوارع ونواد وجامعات ، فنجران اليوم مدينة عصرية تتوفر فيها كل وسائل الحياة العصرية.
‏وأشكر الكاتب أحمد التيهاني على مقالته اللطيفة،والمعنونة ب (نجران فوق التمذهب) والمنشورة في صحيفة الوطن، والتي وصلتني من الصديق المبدع الاستاذ سالم اليامي، أشكره على مقالته واتبنى كل ما جاء في مضمونها الثري،وزيارة نجران بالنسبة لي أمنية، فهي جزء لا يتجزأ من تاريحي الشخصي والثقافي والإنساني.
‏يحيى يخلف
&الكاتب والروائي الفلسطيني!

&