في مناخ أصبح فيه لفت الانتباه أو التحذير أو الانتقاد أو كشف عورة التقصير اتهاما بالعمالة والارهاب والأخونة، كيف يمكن صناعة وطن يتآكل جرء استشراء الفساد والظلم والارهاب؟ إنه لمن المحزن أن يرتفع نباح المرتزقة والجهلاء والمنافقين واللصوص وأن يتم استقبال نباحهم باعتباره وطنية وولاء وخوفا وغيرة وحرصا على الوطن، بل ويكفأون بالاحترام والقرب والمناصب، لقد انقلبت الأمور رأسا على عقب واختلط الحابل بالنابل، الأمر الذي يفسح يوما بعد الآخر مكانا للجماعة الإخوانية الارهابية وحلفائها، مكانا كانت فقدته جراء أعمالها الإجرامية على مدار عام من حكماها (6 / 2012 ـ 6 / 2013) وعام ونصف العام من حكم الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور والرئيس الحالي عبيد الفتاح السيسي، هذه الجماعة التي ما فتئت تستخدم آليات المؤامرة والدس والكذب لتأكيد أنها كانت ولاتزال على حق.
هناك أخطاء ترتكبها الحكومة المصرية ترتبت على فقدانها لاستراتيجية واضحة للتعامل مع المشكلات المعروفة مسبقا على مدار أكثر من أربعين عاما منذ تبني الرئيس السابق أنور السادات ما أطلق عليه "سياسة الانفتاح الاقتصادي" التي سلمت الشعب المصري لسيطرة رأس المال المحلي والأجنبي دون وجود قوانين حامية، وكان المصريون يتوقعون مع وصول الرئيس السيسي لسدة الحكم أن يبدأ في انصافهم والبدء في مشروعات قومية تكفل للأغلبية وهي أغلبية فقيرة أن تسترد بعض مما فقدته من قدرة على المشاركة في صنع مستقبل البلاد وتأمين حياتهم وحياة أبنائهم، لكن مما يؤسف له أنه سلم البلاد لحكومة لم تستطع حتى الآن وضع رؤية أو استراتيجية لا قصير المدى ولا طويلة لوضع البلاد على الطريق الصحيح، وورطته بإنفاق كل المساعدات التي وصلت لدعمه ودعم استقرار البلاد، حيث ظلت ـ حتى اللحظة ـ تتبع نفس السياسات السابقة في اختيار وزرائها ومسئوليها، هذا الاختيار الذي لم يقم وفقا للكفاءة والخبرة بل وفقا للثقة، والثقة وحدها دون كفاءة أو خبرة لا يمكن إلا أن تزيد الأمور من سوء لسوء، فلا مساءلة ولا انتقاد ولا لوم أو تحذير.
وعلى الرغم من الأخطاء التي تتردى فيها الحكومة ونرى الآن نتائجها في تصاعد الأزمات بدءا من ارتفاع معدلات الأسعار بشكل مرعب وانتهاء بتردي الخدمات من كهرباء وغاز، لا تزال الحكومة تصر على المضي وفقا لسياساتها العقيمة سياسات الحكومات السابقة، والتي كانت تعتمد المسكنات دون علاج حقيقي، لا يزال وزراءها ومسئوليها يكتفون من داخل غرف وزاراتهم بإطلاق "التصريحات" وعقد "المؤتمرات الصحفية" و"التقاط الصور" مع كل مصيبة أو كارثة، وحتى جولاتهم الميدانية لا تذهب أبعد من الأحياء الثرية، وإن قررت الذهب للأحياء الفقيرة فليس إلا من أجل التقاط الصور والطبطبة، دون حل أو الشروع في حل يمكن أن يستشعره المواطن.
ووسط كل هذا يتعمد الإعلام صحفه ومجلاته وقنواته خاصة وحكومية أن يتجاهل ما يجري أو أن يخفف من مرارة نتائجه، ويرفض مجرد هذه السياسة أو تلك، ويقصد إلى منع أي انتقاد أو لفت انتباه أو تحذير قد يتربت على نشره وإذاعته منع كارثة محققة، بل يذهب أبعد من ذلك فيكيل التهم للرأي الآخر ممن ينتقدون أو يحذرون أو يوجهون ويطعن في شخصهم وانتمائهم ووطنيتهم، على الرغم من أن هؤلاء كانوا هم من وقفوا ضد الجماعة الارهابية وحلفائها على مدار أكثر من ثلاث سنوات وتم التنكيل بهم من إدارة المجلس العسكري في الفترة من 11 فبراير 2011 وحتى سقوط الحاكم الاخواني محمد مرسي في 3 يوليو 2013، بل منهم مؤيدون للرئيس السيسي ومقربين إليه، أي أن أحدا لا يمكن أن يزايد عليهم وعلى وطنيتهم، لكنهم اليوم ممنوعون من الخروج في البرامج وإن نشروا مقالا هنا أو هناك سبوا بأقذع الألفاظ من قبل المؤيدين.
إن القبضة الأمنية قد يكون لها مبرراتها لحماية البلاد من الارهاب والارهابيين، لكن أن تنسحب القبضة الأمنية على حرية الرأي والتعبير، وأن يتحول الإعلاميون ـ إعلاميو القنوات الخاصة المملوكة لرجال الأعمال ـ إلى أبواق أمنية، فإن هذا يشكل خطرا على البلاد، حيث لن يجد الفاسدون واللصوص والمجرمون من يفضحهم ويلقي الضوء على جرائمهم ويحذر الحكومة منهم ويدعو لمحاكمتهم، ومن ثمة سوف تتحول البلاد إلى مسرح لهم يلعبون عليه كل أدوارهم القذرة، والنتيجة ما نراه اليوم من غضب سيتصاعد غدا وبعد غد، وسوف يستثمر الارهابيون وأعداء الاستقرار والمستقبل ليشكلوا منهم بؤرا وخلايا تهدد أمن البلاد.
إن المناخ الذي يتم تشكيله الآن عبر تجاهل الأزمات والمشكلات التي تذبح المواطن على مدار الساعة، وعدم السماح بمناقشتها وتوجيه انتقادات حادة وبيان أوجه التقصير في أداء الحكومة ووزراءها ومسئوليها، وإظهار الأمور على أنها "الدنيا ربيع والجو بديع قفللي على كل المواضيع"، يشكل خطرا كارثيا، يكفي أنه يزيد من نقمة وغضب يأس المواطن، ويدفعه لخيارات لا تحمد عقباها منها خيار الانتحار، وهو ما نشهد هذه الأيام، أو خيار الانضمام إلى خلية إرهابية، أو خيار الجريمة والسرقة.
إن على الرئيس السيسي أن يخرج من عباءة أهل الثقة إلى عباءة أهل الكفاءة والخبرة والصالح العام، وهو قادر على الحصول عليهم بفضل ما يملك من أجهزة تتوفر لديها المعلومات وقادرة على الفرز، ذلك لأن الاستمرار على أهل الثقة دون الكفاءة والخبرة لن يزيد الأمور إلا سوءا..
&