عندما نفترض أن الرهان سيكون على الدور السياسي للمملكة العربية السعودية، بدءا بعام 2015، لم يأتِ هذا الرأي، وهذه القراءة الاستشرافية كرد فعل على الكارثة التي سببتها أنظمة الإستبداد العربي (الجمهورية)، وإنما نتيجة موضوعية للخلل الإستراتيجي المتشكل في توازن الشرق الأوسط الحرج. إعترض على فكرتي صديق لم يشاركني الرأي، وترجم إعتراضه كدعوة لقرأة كتاب "ما بعد الشيوخ" للبريطاني الدكتور كريستوفر ديفيدسون (صدر عام 2012). وبعد تصفح الكتاب الذي يحتمل الخطأ، كما الصواب في أي جهد أكاديمي إستشرافي، ولأنه كان قد بنى خطابه البحثي على ركائز إعلامية، تلخصت في تنبؤه بسقوط الأنظمة الخليجية خلال مدة تتراوح بين (2-5) سنوات، وعلى إعتبار أن أكثر من ثلاث سنوات قد مضت على نشر هذا البحث، يمكن تجاوزه وقراءة المشهد الشرق أوسطي بعيون محلية.

معظم من أرّخ للمتغيرات السياسية في الشرق الأوسط، بدءاً بمالكوب ياب في كتابة "ولادة الشرق الأدنى الحديث"، وصولاً إلى كيسنجر في كتابه الأخير"النظام العالمي"، مرورا بدافيد فرنكومين في كتابه "سلام ما بعده سلام" يشيرون إلى أن ثلاث دول كانت تُعَد أعمدة للسياسية الإقليمية في الشرق الأوسط، هي تركيا، إيران ومصر. في عشرينيات القرن الماضي تزايد دور مصر، وخاصة بعد التسوية التي أشرف عليها تشرشل عام 1922، ومن ثم تم التأسيس لدور المملكة العربية السعودية (م.ع.س) على حساب تراجع شديد لدور تركيا السياسي، هذه الدولة التي إختزلت من (دولة خلافة إسلامية) شكلية وإمبراطورية فعلية ممتدة في ثلاث قارات إلى جمهورية هزيلة، فتية وفقيرة. حدث ذلك المتغيير الكبير كنتيجة للحرب العالمية الأولى، وكتسوية سياسية كبرى لصالح بريطانيا في المقام الأول.

لاحقاً برز وترسخ دور(م.ع.س) بعد أن ورثت تركيا معنوياً، لتتحول إلى مركز للعالم الإسلامي، أما مصر فقد ورثتها على الصعيد العسكري، وقامت بملئ الفراغ الذي خلفه تفكك الدولة العثمانية، في شمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط، إلى أن ترسخت المكانة الجيوسياسية لمصر في عهدها الجمهوري.

بعد تأسيس دولة إسرائيل وتوسعها، إختلت من جديد موازين القوى الجيوسياسية في المنطقة، وتبدلت المعادلات والمهام، لدرجة أن أوكلت (م.ع.س) بصيغة ما، كل من مصر وسورية لقيادة عملية المواجهة مع إسرائيل، فإستغلت الحكومات العسكرية – الحزبية (القومية) في البلدين ظروف المواجهة، فأسسوا لخطاب ديماغوجي، وأطلقوا حملات إعلامية تتبنى خطاب سياسي مناوء ل(م.ع.س) نفسها، لدرجة أن أدرج ذلك الخطاب الأيديولوجي في المناهج التعليمية.

ما حدث لاحقا أن دور الأنظمة العسكرية – الحزبية قد تضخم في كل من مصر وسورية والعراق، وإلى حد ما الجزائر، على حساب تراجع دور (م.ع.س).

نظرياً كانت هذه الأنظمة (تقاوم) الغرب وإسرائيل نيابة ووكالة عن (م.ع.س)، أما على الصعيد العملي فقد بلغ الجفاء ببعض تلك الجمهوريات حتى أعلنوا العداء صراحة ل(م.ع.س)، وإلى حد ما للدول الخليجية الأخرى، وتظل ليبيا (القذافي) المثال الواضح للتعبير عن هذه الحالة طوال العقود الثلاث الماضية.

يصعب علينا، نحن الذين مررنا ضمن مراحل التعليم في الدول التي صاغت الفلسفة اليساروية المعادية ل(م.ع.س)، إذ تم وصفها مراراً وتكراراً بالرجعية والمهادنة للإستعمار، أن نعيد رسم صورة مستجدة لها، كما لباقي المجتمعات الخليجية، كما يصعب أن نتصور بأنها قد تقدمت إقتصادياً ومعرفياً وتجاوزت الجمهوريات في جوانب متعددة. ثمة حقائق ومؤشرات تعبر عن نفسها، فقد ظهرت في (م.ع.س) خلال العقود الماضية حوالي (120) روائية، و قد تجاوز عدد طلاب العلم الموفدين إلى بريطانيا ثلاثة آلاف طالب. المشهد التنموي العام فيها معبر وكاف لأن يقنع أي باحث ومهتم بخطأ التوصيف الذي ألصق بالدول والمجتمعات الخليجية.

ما قامت به حكومات (الحزب الواحد) لم يقتصر على تغيير الحقائق في المشهد العربي في الخارج، وإضطهاد المعارضين في الداخل، وإرتكاب جرائم ضد الإنسانية فحسب، بل أن هذه الحكومات التي إنبثقت من منظمومات إجتماعية طَرَفَية مُستَعرَبة، تشكلت على تخوم الجزيرة العربية، قد أسأت لصورة المجتمع العربي الخليجي، وساهمت في تشويه صورة العربي النمطية في سياق مزايداتها (القومية)، ودخلت في سباقات المزايدة الشوفينية إتجاه الجوار، إلى أن تسببت في إشعال حروب ضد شعوب متجاورة ومتعايشة مع العرب تاريخياً، وبشكل خاص الكورد.

المتغيرات العميقة التي حدثت وقد تحدث في البيئة الإستراتيجية في الشرق الأوسط، تشجع على إعادة إكتشاف وقراءة تضاريس المجتمعات العربية الخليجية من جديد، وباتت قراءتها ضرورة للمهتمين بالشأن العام والدراسات المستقبلية.

إن إستشراف المستقبل، وإستكشاف الفراغ الذي أحدثته إنكماش عدة دول عربية (سورية، العراق، ليبيا واليمن) يقتضي بالضرورة التفكير بالبديل المحتمل الذي قد يسد الفجوات الجيوسياسية التي شكلتها منظمات (ما دون الدولة)، وخاصة بعد ولادة دولة – منظمة متطرفة عابرة للحدود (داعش)، مائعة ومنفلتة، تتمركز على التخوم الشمالية لشبه الجزيرة العربية، وبالقدر نفسه برزت منظمة أخرى في جنوب الجزيرة العربية (الحوثيون في اليمن)، ألغت عمليا دولة اليمن وسيطرت تماما على العاصمة صنعاء.

أغلب القراءات الموضوعية والتوقعات تشير بإتجاه أكبر دولة عربية متبيقة ومتماسكة مالياً واجتماعياً، وهي المملكة العربية السعودية. وتتوقع لها أن تعيد تموضعها السياسي من جديد، على إعتبار أنها باتت محاصرة بما يمكن أن نسميه الفجوات التي خلفتها غياب سلطات الدول السابقة الذكر. ف(م.ع.س) لم تعد مهددة بفوضى عسكرية وفيضان أيديولوجي متطرف فحسب، وإنما بإنحسار دورها السياسي إلى أدنى مستوياته.

إن مؤشرات الإصلاح الداخلي للنظام التعلمي والتشريعي في (م.ع.س)، إضافة إلى ترتيب بيتها الداخلي، المتجسد في سلاسة نقل السلطة إلى الملك سلمان مؤخرا، وأهمية الخطوات التي اتخذها الملك سلمان في تجديد وهيكلة المنظومة السياسية والاقتصادية في البلاد، كإنشاء وتفعيل مجلسي «الشؤون السياسية والأمنية» و«الشؤون الاقتصادية والتنمية»، يؤهلها أكثر لملئ الفراغ (القيادي) في المنطقة. سواء كانت إحتمالات النجاح كبيرة أم صغيرة، فإنها تظل الجهة الأولى المعنية بالإجابة على "من سيقود الدول العربية"؟ ومن سيدير أخطر أزمة تتعرض لها المنطقة؟! كما ينبغي التفكير أيضاً بمن يتفهم ويحترم طموحات (م.ع.س) للرقي بدورها الإقليمي، هذا الدور الذي يبدو أقل ذاتية وأنانية من أي دور آخر، لأن سياسة (م.ع.س) دفاعية واضحة في هذه المرحلة أكثر من أي وقت آخر.

لا يخفى على المتابعين للمشهد السياسي ودور دولها البارزة في المنطقة، أن الدبلوماسية الإيرانية وعملية التوظيف الأيديولجي والعسكري لنفوذها قد حاصرت (م.ع.س) من الجهات الثلاث، بصرف النظر عن النوايا والمبررات. كما أن تركيا (الأردوغانية) ذهبت في العمق لبناء تحالفات حزبية وسياسية داخل المجتمعات العربية، لتشكل إستطالات مؤثرة على المشهد العربي عموماً، وداخل أوساط العرب السنة خصوصاً، وهيمنتها على المعارضة السورية مثال&على ذلك. هذا وليس من المتوقع لزيارة أردوغان الأخيرة للرياض في (2/3/ 2015) أن تشكل انعطافة اتجاه (م.ع.س) ودورها المرتقب، بقدر ما تندرج ضم الدبلوماسية التركية الاستعراضية الطموحة.

في الآونة الأخيرة وإثر تحرك (م.ع.س) الدبلوماسي نحو تحسين العلاقة مع العراق، تمت المبالغة في توصيفها، فإعتبرها البعض طموحات تصل لدرجة التدخل في الشأن العراقي والمساهمة في الترتيبات والتوازنات الداخلية. هذا الإفتراض مبالغ فيه، بنفس قدر توصيف درجة المعارضة الإيرانية لهذا التحرك، والتكهن برد فعل شديد إزاء قرار فتح سفارة ل(م.ع.س) في بغداد، وقنصلية في أربيل. أن إستعادة (م.ع.س) لدورها العربي الموضوعي، يبدو حقاً طبيعياً واستحقاقاً جغرافياً، خاصة إذا تنبهنا إلى الإختلاف الشديد بين دورها والدور الإيراني، فإيران لم تعد مجرد دولة مجاورة للعراق تحصن حدودها، وإنما باتت اليوم منظومة هجومية عسكرية – أيديولوجية شديدة التماسك، يتطلب موازنتها الكثير من الجهود والتحالفات، وكذلك للتخفيف من تأثيرها البنيوي على عموم سياسات الشرق الأوسط.

لقد عرفت (م.ع.س) منذ نشأتها بدلوماسية مهذبة إتسمت بالحذر. وكانت مبادراتها السلمية قد شملت أصقاع بعيدة، لكنها على ما يبدو مضطرة لتجاوز الكثير من تحفظاتها السابقة، بهدف تحديث علاقاتها الخارجية، وتفعيل ثقلها الراهن، لملئ الفراغ الجيوإستراتيجي المتشكل في محيطها القريب، وعلى حدودها في المقام الأول، ومن ثم السعي لإستعادة دورها المسلوب عربياً و تركياً ثانياً. فالمؤشرات جميعا توحي بضرورة تنامي هذا الدور، كما أن حاجة الإقليم تقتضي الاستعجال فيه.

&

*أكاديمي كردي سوري- أربيل