من أطرف ما شهدته منطقة شمال افريقيا في الأسابيع القليلة الماضية، إتهام الجزائر للمغرب بالضلوع في أحداث غرداية ذات الطابع المذهبي من جهة والعرقي من جهة أخرى.
استطاعت السلطات الجزائرية تطويق الأحداث التي عصفت بالمدينة الواقعة في جنوب البلد، ولكن بعد سقوط ما يزيد على عشرين قتيلا وبعد دمار كبير لحق ببعض أحياء غرداية.
في غرداية سنّة وأباضيون. الأباضيون، وهم امازيغ، معروفون أيضا بالمزابيين، وهم من أنشط التجار في الجزائر ومن أكثر المواطنين إجتهادا. عاش العرب والأمازيغ سنوات طويلة في ظل وئام تام. لم يطرح في أيّ يوم موضوع الخلافات المذهبية والعرقية. الموضوع مستجد وبدأ يأخذ ابعادا خطيرة منذ اندلعت فجأة الصدامات في غرداية في العام 2008.
تجدّدت الإشتباكات بين العرب والأمازيع وهم أباضيون مرّات عدّة في السنوات الماضية. كانت السلطات الجزائرية تعمل في كلّ مرّة على إحتواء الوضع في المدينة، كما في غيرها من المناطق حيث توتر بين العرب والأمازيغ وبين السنّة والأباضيين.
من السهل توجيه الإتهامات للمغرب ولجهات أخرى، خصوصا أن السلطات الجزائرية ترفض مواجهة الواقع والإعتراف به. من أجل التعامي عن الواقع، ليس من طريق أقصر من طريق الهرب إلى أمام...إي إلى الإستعانة بدور وهمي للمغرب الذي يظلّ إلى إشعار آخر عقدة جزائرية. لم يكن للمغرب يوما سوى دور بناء في الجزائر، وهو سعى إلى تعاون معها في كلّ المجالات. هل من يتذكّر أنه أوّل من ساعد شعب الجزائر على تجاوز محنته في العام& 1988، فكان أوّل من قدّم للجزائر مساعدات عينية؟
ثمّة حاجة دائمة لدى النظام الجزائري إلى الهرب من الواقع. هناك& عبارة واحدة تلخّص هذا الواقع الذي له اسم. إنّه الجزائر المريضة. كيف يمكن تجاهل ذلك ما دام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يحكم البلد منذ بضع سنوات من كرسيّ نقّال، وهو يستطيع الكلام بالكاد. يحتاج دائما إلى من يخطب مكانه ومن يعبّر عمّا يقصده. لم يعد معروفا هل الجزائر هي المريض أم بوتفليقة وحده المريض. كيف يمكن لبلد أن يُبقي رئيسا عاجزا في موقعه، بل أن ينتخب هذا الرئيس لولاية جديدة، خصوصا في ظلّ حاجة الجزائر إلى رأس للدولة يتابع كلّ صغيرة وكبيرة ويعمل ما لا يقلّ عن إثنتي عشر ساعة يوميا.
هل يمكن لبلد أن يعمل بشكل طبيعي، بينما رأس الدولة يعاني مما يعاني منه عبد العزيز بوتفليقة؟
كان يمكن التغاضي عن مرض بوتفليقة لولا أن النظام في الجزائر نظام شبه رئاسي. رئيس الجمهورية يمتلك صلاحيات كبيرة جدا في كلّ مجال، خصوصا عندما يتطلّب الأمر إتخاذ قرارات خطيرة من نوع كيف التصدي لمشكلة معقدة، باتت مشكلة مزمنة لها أكثر من بعد، كمشكلة غرداية...
مشاكل الجزائر لا تحصى ولا تعدّ. غرداية جزء صغير من هذه المشاكل. لكنّ هذا الجزء من المشاكل الجزائرية يمكن أن يتطور نحو الأسوأ في سرعة رهيبة وأن يتّخذ طابعا وطنيا في غياب البحث عن حلول جذرية تقوم أول ما تقوم على المساواة بين الجزائريين واعتماد خطط للتنمية.
هل يعقل أن تكون هناك مناطق جزائرية، بعضها ملاصق للمدن الكبرى، تعاني من فقر مدقع لا وجود لمثيل له حتّى في بنغلادش أو في دول تقع في مجاهل إفريقيا؟
الأكيد أن البحث عن حلّ يبدأ بالإعتراف بوجود أزمة عميقة في غرداية. الحل لا يكون عبر توجيه إتهامات مبطنة وغير مبطنة إلى المغرب. الحل بالتساؤل أوّلا لماذا تتكرّر الأحداث في غرداية.
من دون العودة إلى العام 2008، ما الذي تغيّر بين العامين 2014 و 2015؟&
في العام الماضي، إنفجر الوضع في غرداية. وقع قتلى وجرحى. لا يزال الأمازيغ يشكون حتّى اليوم من الظلم اللاحق بهم من إخوانهم العرب. هل الجميع مواطنون في بلد واحد؟
بكل بساطة، تبدو أحداث الأسبوع الماضي قابلة لأن تتكرّر في غياب الجهد الجدّي للغوص في أعماق الأزمة. إنّها قبل كلّ شيء أزمة ثقة بين المواطن ودولته ومؤسساتها التي لا تزال تعمل بالطريقة المتخلّفة نفسها منذ وصول هواري بومدين إلى السلطة في العام 1965 من القرن الماضي. لا تزال مجموعة من كبار الضبّاط، من ذوي الإمتيازات،& تسيطر على مقدرات البلد. دخلت على البلد مليارات الدولارات من عائدات النفط والغاز. شهد عهد بوتفليقة، الذي بدأ في 1999، إرتفاعا هائلا في اسعار النفط والغاز جعل الجزائر دولة غنيّة مجدّدا. صارت الجزائر تمتلك إحتياطا ماليا كبيرا فاق المئة وخمسين مليار دولار.
بدل صرف هذه الأموال في التنمية وفي تحقيق العدالة الإجتماعية، إستُخدم جزء منها لرشوة المواطنين وتخديرهم واسكاتهم بدل تعويدهم على العمل المنتج عن طريق مشاريع كبيرة تصبّ في مكافحة البطالة. فالبطالة مشكلة اساسية في الجزائر وتلعب دورا كبيرا في تشجيع التطرّف في بلد يفتقد المدارس والبرامج التعليمية التي تساعد في منع خلق أجيال من الجهلة والمتطرفين الذين لا يعرفون شيئا عن الإسلام الحقيقي وثقافة التسامح والإعتراف بالآخر.
لم يتغيّر شيء في الجزائر على الرغم من سقوط الحزب الواحد بعد الثورة الشعبية في خريف العام 1988 والتي تسبب فيها هبوط اسعار النفط والغاز في تلك المرحلة. لم تجد الجزائر وسيلة للتخلص من إعتمادها على اسعار النفط والغاز، على العكس من المغرب الذي طوّر نفسه ومواطنيه ومناطقه كافة، من دون تمييز، من أجل بناء إقتصاد متطور ليس رهينة لدى أحد.
بقيت الجزائر تعاني من الفساد والجمود ومن سياسة قائمة على خلق المشاكل في محيطها، لعلّ ذلك يخفّف من مشاكلها الداخلية ويبعد الأنظار عن تلك المشاكل. إبعاد الأنظار عن المشاكل شيء والإعتراف بها شيء آخر. الإعتراف بالمشاكل يتطلب جرأة ورجال دولة.
بدل أن تلعب الجزائر دورا إيجابيا في الإستقرار الإقليمي أكان ذلك في ليبيا أو تونس، نجدها في بحث دائم عن دور ما تعتقد أنّ آخرين ينافسونها عليه. هناك بحث مستمر عن دور بدل الإنصراف إلى الوضع الداخلي والتعاون مع دول المنطقة في مكافحة الإرهاب.
هذا ما فهمه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد متأخّرا. إلى أن تبيّن له، في مطلع تسعينات القرن الماضي، أن النظام أقوى منه. إنّه نظام أسير معادلة معيّنة غير قادرة على التطلع إلى أهل غرداية بعيونهم. يؤمن النظام بأنّ النفط والغاز كفيلان بحل مشاكله وأنّه يكفي توجيه الإتهام إلى هذا الجار أو ذاك، كي لا تعود مشكلة في الجزائر.
عاجلا أم آجلا، سيتوجب على الجزائر التصالح مع نفسها. هذا يعني في طبيعة الحال مواجهة مشاكل البلد كما هي من دون لفّ أو دوران. في مقدّم المطلوب مواجهته أنّ الشعب الجزائري شعب عظيم ولديه رجال سياسة من النوع الإستثائي. هؤلاء قادرون على التصدي لمشاكل البلد بعيدا عن المزايدات والشعارات والعناد والمزايدات. كلّ المطلوب مواجهة الواقع بدل الهرب منه عبر الإحتماء خلف رئيس، أسير عقده الشخصيّة قبل أي شيء آخر.
لا شكّ أنّ بوتفليقة كان حاجة للبلد في مرحلة ما، لكنّه لم يعد قادرا على ممارسة مسؤولياته بأي شكل من الأشكال...ولو في الحدّ الأدنى منها. هل لدى الجزائر القدرة على الإعتراف بهذه الحقيقة بدل الإلتفاف عليها؟